عندما يأتي الشتاء ..!!

عندما يأتي الشتاء ..!!
** كان يستقبله الفاروق عمر ويصفه بغنيمة العابدين، و كان ابن مسعود يشرح الوصف ويرحب بتلك الغنيمة قائلاً : أهلاً بالشتاء، يطول فيه قيام الليل ويقصر فيه صيام النهار..هكذا كان يحتفي زمن الكرام بالشتاء، رضي الله عنهما، وعنهم جميعاً..ولكن تغيرت الأنفس والأهواء، وكذلك الأزمنة وما عليها من الأحوال، ولذا صار الشتاء قاهراً ، أو كما يصفه فاروق جويدة على لسان حال قائل:
ثيابك لم تعد تحميك من قهر الشتاء
وتمزقت أثوابنا..وهذي كلاب الحي تنهش لحمنا
ثوبي تمزق هل تراه ..؟؟
صرنا عرايا .. وفي عيون الناس يصرخ عرينا
البرد والليل الطويل..العري واليأس الطويل
القهر والخوف الطويل..ماذا تقول عن الرحيل ..؟؟
** وفي الخاطر تلك القرية وحال الأهل وتفاصيل الشتاء..فلنستعد، لقد أقبل، أو هكذا بيان كبارنا.. فنستعد بتحويل البيان إلى عمل.. نطحن ضعفاً من القمح، وكان مقدار طحين القمح قبل الشتاء نصف ما تطحن من الذرة، ولكن علمتهم التجارب بأن ما لا يُسهل هضمه يصلح مضادا لبعض البرد..ونستعد لمضاد البعض الآخر .. بفؤوس ذات رباط محكم على ظهور نحيلة، نتسلق أشجار النيم وذؤابات النخيل، ونبحث من الفروع والأوراق أنضرها ونقطعها.. ورفاقاً يجمعون ما تنساب عليهم من تلك الذؤابات، ويحزمونها بحبال تستمد متانتها من صبر سيقان (نباتات الحلفا).. ويا للسيقان هذه، تفرهد على الجداول والشواطئ، وكذلك تقاوم عطش الفيافي بلا وهن، أي كأنها على قسم بأن تعدل بين البسطاء حين تمدهم بحبال سيقانها، متكئاً على شاطئ النيل؛ كان هذا المتعفف أو رفيقاً لنجيمات الفيافي..!!
** فنحمل ما جمعناها وحزمانها، ونقصد الديار ونوزعها برص رصين يتكئ على الجدران ..ما بين الجدران والعرش منافذ تباعد ما بين حشرة الأرضة ومكونات العرش التي سخرتها الطبيعة لتكون ظلاً ظليلاً، وكم هي كريمة نخيلنا وأشجارنا – بل حتى أنعامنا التي لا تبخل علينا بروثها – وهي تهبنا العرش وظل العرش بتجرد صامت يتحدى رياء صخب مصانع الحديد والأسمنت.. ثم يأتي الكبار بسلالم الخشب، ليتسلقها أمهرهم بحيث يقف محازيا لتلك المنافذ، ثم يتسلق أحدنا بحيث يقف تحته، ثم يتقاسم الجميع أجر المناولة، ويبدع الماهر في سد المنافذ بما جمعناها وحزمناها، ويسدها لحد حشو الغرف بالظلام حين تغلق أبوابها، أو هكذا معيار الإتقان..ويذهب أهل الفزع لبيت آخر، ولكن بعد أن يبروا قسم سيد أو ربة هذا المنزل، وقبول كرم يفيض بأكواب الشاي والقهوة وأطباق البركاوي والقنديلة ..!!
** ويأتي مساء الشتاء بلا برد.. لقد تجانست أفرع النيم وسعف النخيل ومتانة الحلفا وهمة الصغار وعزيمة الكبار واتحدت على قهر البرد ظهراً، وبتجانسهم واتحادهم أرغموا أن يحل مساء الشتاء على أهل البيت ضيفاً رحيماً..العشاء وصلاة العشاء في المسيد، وفرض عين علينا تجهيز ما يلزم من البرش والإبريق والصابون، ثم وضع الرتينة أو الفانوس على جدارعال، بحيث يجذب ضوؤها عابر سبيل..ونعود جرياً، لتشعل ست الحبايب نارها، لنتحلق حولها، بعضنا يمسك صبياناً أو مريوداً – بيسراه وكوب شاي ساخن باليمنى، وحين يرشف الفم لا تحدق العين في قاع الكوب، بل يتجه سوادها- بإنسانها – إلى جهة اليسرى تكمل جملة مفيدة في أسطر تلك الإصدارة..وما بين دفء الأسرة وأسطر الإصدارة وتجانس الطبيعة، ندفن البرد..و..و..!!
** وتمضي الحياة بفصولها، ولا تزال أكواخاً فقيرة هي مأوى فقراء بلادنا في هذا الشتاء..في أطراف المدائن وأقاصي الأرياف، بعضهم يتدثر بالبرد والبعض الآخر يتزمل بالجوع، والسواد الأعظم منهم يفترش الحرمان ويلتحف العدم..لهم الله، ثم دعوات الأخيار وعطاء الأبرار..!!

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]

Exit mobile version