ثمة صوت نحيب يخفت شيئاً فشيئاً قبالة شارع النيل وداخل المبنى الأبيض الأنيق في قاعة الصداقة، استيلا تستعيد وقائع حوار صغير مع طفلها “إنت يا ماما هسه جنسيتك شنو”؟ فترمقه بنظرة خاطفة وتجيبه “شنوبية”!
خيوط المصاهرة
ذات انفصال حزين غادرت استيلا وطنها القديم مخلفة وراءها زوجها وتاريخها وذكرياتها وأحلامها وفرشة أسنانها وفراشها القديم، لتعود هذه المرة من بوابة الزوار المدعوين لجائزة الطيب صالح.. ثمة ما يدعو للتحديق.. كانت آخر عباراتها الشاهقة في الجنوب وهي تشهد اندلاع نيران الحرب الجنوبية الجنوبية في سقوف القطاطي هي: “إنني أحس باليتم، بعد أن جعلتم من جنوب السودان سرادق عزاء كبيرا” استيلا ليست وحدها المتعثرة في أخابيل المصاهرة والوطن البديل.
الكتابة والإبداع والمصاهرة هي الخيوط الأكثر بروزاً في قماشة العلاقة.. يشهق وجه آخر لرجل مسكون بالإبداع وروح النقد والتأمل، الدكتور صلاح فرج الله.. صلاح يحدث عن نفسه بافتتان مجسداً عبقرية التباين، يقول الرجل حينما داهمناه بسؤال عادي (من أنت وكيف ترى ذاتك؟) يقول وهو يطلق ضحكة عالية: “أنا نتاج علاقة زواج بين دارفور وقبيلة الشلك، ولذلك أمثل عصب المشكلة السودانية، وأرى ذاتي كالزئبق فى الصعود والهبوط والتعبير عن الذات والقيام بالمهام دون أن أوسخ الزجاج”.. ومن ثم يمضي فرج الله في رسم ملامح التكوين: “أنا نتاج لحركة أب مثقل فى التجوال.. أب كان يبحث عن الحقيقة بالرغم من أنه أمي والإنسان الأمي يصعب عليه التجوال واتخاذ القرار، لكن أبي كان مسنودا بالحكمة وكان أميا مثقفا ثقافة عامة وهو ابن المك عمر بعد أن أسلم، وكان أبي يشارك السيد عبدالرحمن المهدي في الذهاب الى أعالي النيل ويمكثان شهورا طوالا ويعودان وفي معيتهما الشلك بقناعاتهم وهم يرتدون الجلباب الأبيض والعمامة دون تطرف، ودون هيمنة وتعال، كان الشلك يدخلون فى الإسلام”.. فرج الله هو جزء من حكايات طويلة غير قابلة للنسيان وإن كان صوته قد خفت بعيد ذهاب الجنوب وربما أرهقه العياء.
حكاية لاقو وآمنة
قبل أعوام خلت كانت هنالك سيارة تائهة في أحياء مدينة جبرة، كنا بداخلها نبحث عن منزل الفريق جوزيف لاقو، وعثرنا عليه بعد لهث طويل، وبمجرد أن دلفنا نحو غرفة الضيوف، حضر الفريق جوزيف لاقو وبمعيته زوجته (آمنة عبد الرحمن) -من أقصى الشمال- وقبل أن يجف حبر الدهشة في عروقنا تحدث جوزيف حديثا مفعما بحرارة اللقاء، وقال لنا بعربي جوبا: “دي مرة بتاعي ودا ولدنا – قاصد الخير – وأنا قررت أن لا أرفع سلاح في وجه أخوال أولادي”. كانت تلك عبارته الشاهقة والمدوية التي اختصرت علينا مقدمات البحث عن قصة الرجل الذي شغل الوطن بزواجه الشهير في السبعينيات، وأيده الرئيس السابق جعفر نميري بقرار رسمي بعد اعتراض الكنيسة وبعض العلماء المسلمين عليه في بادئ الأمر، ليعود جعفر نميري نفسه، وتحكي المحاكم وقصاصات الصحف قصة زواجه من روضة جوان.
وعلى الرغم من الجدل الذي دار داخل أروقة المحاكم حول ذلك الزواج الذي بلغ هرم الدولة، ولكن ربما تكون هنالك حالة مصاهرة أخرى باذخة تتصل برئيس دولة الجنوب الحالي نفسه الفريق سلفاكير ميارديت، للرجل شقيقة تسمى سامية قير موجودة بالنهود ومتزوجة من شمالي وبينهما عشرة ومودة وأطفال.
ردم الهوة
المصاهرة بين الأسر السودانية الجنوبية لم تنقطع طوال التاريخ المشترك، وفيما كان جوزيف لاقو يحلم بردم الهوّة التي تفصل بين الشمال والجنوب، وعمل على ذلك من خلال إقدامه على تجربة نوعية في حياته تجاوزته في كثير من الأحيان لتعبر عن تواصل لم يعد حصرياً على السياسيين فقط، والآن تعيش أسرة جوزيف لاقو في الخرطوم مجسدة حالة من الانصهار الاجتماعي المنشود، قبل أن يغادر الجنرال الشهير إلى لندن ليعيش هنالك وسط الثلج والضباب.
حالات باذخة
على ذات الدرب تعددت حالات التزاوج بين الشماليين والجنوبيين، وأشهر تلك الزيجات زواج مرشح المؤتمر الشعبي السابق لرئاسة الجمهورية عبد الله دينق نيال من ابنة الشهيد أحمد الرضي، وزواج قاسم برنابا الذي ينتسب إلى قبيلة الزاندي ودرس في الأزهر الشريف ليصل بخيوط المصاهرة حتى قبيلة الأزيرقاب، وكانت زوجته ممرضة في جوبا، وعندما توفيت عوضه أهلها بشقيقتها. ومن ضمن النماذج اللافتة أيضا منقو أجاك والدكتور باسيفيكو لادو لوليك الذي كان والده أحد السلاطين في الجنوب وهو صاحب العبارة الشهيرة التى تنسب له: “الشماليين بالنسبة للجنوبيين زي القش وسط الزجاج لو شلت القش سوف يتحطم الزجاج”، لتعود الحرب الجنوبية الجنوبية مترجمة ذات العبارة المدهشة!
أسرة عرمان
حبال المصاهرة امتدت بشكل أعمق في زواج ياسر عرمان القيادي في الحركة الشعبية، عرمان ارتبط بابنة زعيم منطقة أبيي (الناظر مجوك)، وتمت زوجته بصلة قرابة للدكتور لوكا بيونق وله منها بنتان: وفاء وسناء، وهى الحالة الأشهر التي عدها المراقبون تجسيدا لفكرة التواصل والقبول الاجتماعي، وعرمان بزواجه ذلك رسم على فضاء السودان لوحة باذخة المعاني، كما عبر عن ذلك الكثيرون، وقد كان للسلطان مجوك فضل كبير في تعميق روابط الدم الاجتماعية والأسرية بين الدينكا وقبائل التماس العربية، ونتجت عن ذلك علاقات مصاهرة ممتدة امتصت الكثير من التوترات السياسية في تلك الفترة ولا تزال.
رغم الجغرافيا
من أشهر حالات المصاهرة أيضاً كما تدونها الوقائع التاريخية زواج الدكتور فاروق الختام الذي ارتبط ببنت القائد الجنوبي الشهير سيرسيو آيرو عضو مجلس السيادة، وأيضا عكاشة كوراك أكبر التجار الشماليين في كلي الذي ارتبط بجنوبية وأنجب منها عدداً من الأبناء، وابن العمدة صلاح الدين الحسن عمدة الجوير الذي فتح القبيلة على تصاهر جديد ونسب ممتد حتى اليوم. ومن القادة السياسيين مدير مكتب الرئيس السابق نميري (عمر علي محقر) الذي ارتبط هو الآخر بفتاة من جنوب السودان..
ربما تكون هذه نماذج صغيرة، ولكن الحدود تشتعل بحياة كاملة يأمل الكثيرون من ورائها أن تطغى على تقلبات الأمزجة السياسية وتحطم جغرافيا الحدود المصطنعة وهم يرددون بلسان درويش: “لم نحلم بأشياء عصية. نحن أحياء وباقون…. وللحلم بقية”.
صحيفة اليوم التالي