أتوقع أن كل من يقرأ مقالي يجيبني بأن الأمر لا يحتاج! فقد انتشر البلاء! واتسع الخرق! وإنا لله وإنا إليه راجعون. لكن لا بأس من ذكر بعض النماذج من «الواقع»، ويتبعها ذكـــــــــر شيء من «المأمول».
موظفون كثيرون لا يلتزمون بالحضور والانصراف في الوقت المحدد لهم!! وآخرون يتغيبون عن الأعمال بغير عذر مقبول وبعضهم قد يأتي بتقارير طبية «مزورة» أو تم شراؤها بمبلغ من المال! أو أعطاهم إياها ذو قرابة أو صداقة! وفي بلادنا يمكن أن يكون الغياب بسبب «مجاملة» كمناسبة زواج أو عزاء أو أي مناسبة أخرى! بغض النظر عن نوعها! وقد تحدثت عن هذه الجزئية في مقال سابق نشر بهذه الصحيفة بعنوان: واقع المجاملات السودانية وقاعدة الأولويات وأداء الحقوق. وهل يا ترى ستتوقف هذه المناسبات في يوم ما؟! أم هل سيأتي اليوم الذي يقارن فيه كثيرون بين واجبهم في عملهم، وأداء أمانتهم فيه، وإنهاء معاملات المراجعين وبين ما يؤدونه في «بعض» تلك المجاملات التي قد يسافر بعضهم لها مسيرة مئات الكليو مترات؟!
آخرون لا يتغيبون إلا أنهم لا يؤدون ما يجب عليهم في أعمالهم ووظائفهم «وهذا بحر لا ساحل له» فتجد مدرساً لم يستعد ويحضِّر لدرسه ولم يتقن مهاراته ويحيط بجوانبه، ويدخل على طلابه وهو أحوج منهم إلى تعلم هذا الدرس! «وفاقد الشيء لا يعطيه»، وبعض المدرسين لا يدرس المقرر الذي يجب عليه تدريسه بل ربما يكتفي بتدريس نصفه! أو ثلثه! والثمرة: الجهل والفشل لطلابه نتيجة لفشله وتضييعه أمانته، وهكذا في سائر الوظائف والأعمال تجد مثالاً وأنموذجاً لهذا المعلم الفاشل المضيع لأمانته، ومن العجائب أن هذه العينات من الموظفين والعمال «الفاشلين» تجدهم من أكثر الناس حرصاً على استلام رواتبهم وأجورهم في أوقاتها، ومن أكثرهم احتجاجاً إن تأخرت يوماً أو يومين، وهم ـ بحق ـ من المطففين الذين قال الله تعالى عنهم: (ويل للمطففين «1» الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون «2» وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون«3»).
إن الشخص الذي لا يقوم بإتقان عمله ولا يؤديه كما يجب، أو على الأقل لا يؤدي «الحد الأدنى» الذي تبرأ الذمة به، قد ضيَّع الأمانة التي سيسأله الله تعالى عنها.
إننا نعيش في زمان أصبح فيه كثيرون هذا هو حالهم وواقعهم، لقد كثر ترديد مثل هذه العبارة «مشِّي حالك»! لتقديم عمل لا تبرأ الذمة بأدائه، وبأداء عمل قد أُخِلّ فيه بشروط الوظيفة أو العقد أو المهنة.
وللأسف فإن هذا الداء قد أصاب الكثيرين وإن ضربت مثالاً ببعض المدرسين، فإني أضيف مثالاً لــ«بعض» «الأطباء» فإن الهَمَّ الأكبر لدى بعض الأطباء في عملهم هو: الدخل المادي «الفاحش» «فقط» وأما أخلاق الإسلام والمهنة وبراءة الذمة وحقوق المرضى فلتذهب أدراج الرياح أو ليُضرب بها عرض الحائط لدى هذا النوع من الأطباء.
إن بعض الأطباء في بلادنا يطوف في سويعات أو دقائق على أكثر من «خمسة» مستوصفات أو نحوها للمرور على المرضى الذين ينتظرونه طوال اليوم في غرف تلك المستشفيات «الخاصة» ليحظوا ويحظى ذووهم معه بدقيقتين أو ثلاث قد لا يستطيعون الاستفسار أو الحديث معه فيها، لأن لديه تدريساً بالجامعة وله مرضى في مستشفيات كثيرة وله عيادة لا بد أن يكون عدد المرضى فيها أكثر من خمسين مريضاً ولديه… ألخ، ويضيع بذلك إتقانه لعمله وأداؤه له كما يجب!! إن الموظف الذي يتعمد عدم إنجاز أو تأخير الأعمال المتعلقة بالأشخاص أو الدولة قد ضيَّع الأمانة ، فإن بعض الموظفين يحبس بعض المعاملات عنده متعمداً، ولأسباب تدل على «خبثه» وضعف دينه ومروءته، فقد يكون ذلك منه لمجرد أذية أصحاب هذه المعاملات! فهو ممن يجدون المتعة بذلك! وقد يكون ذلك لإثبات أنه شخصية مهمة ولها دور فعّال!! وقد يكون ذلك منه حتى يُدفعَ له شيءٌ من المال! مباشرة! أو عن طريق الوسطاء «السماسرة» الذين دُرِّبوا لذلك خصيصاً! أو حتى تتم المقايضة بمعاملة أخرى يكون صاحب المعاملة له دور في إتمامها! وأعجبُ ما سمعتُ في تلك الأسباب ـ خاصة في بعض المعاملات الكبيرة ــ أن يكون الموظف قد فعل ذلك حتى يُزَوِّجَه صاحبُ المعاملة ابنته أو أخته!!
إن المنظر اليومي لاصطفاف كثير من المراجعين في «طوابير» ولساعات لطوال ويأتي العشرات في نفس الوقت وبطرق أخرى لتنجز لهم أعمالهم في «دقائق» بلا حياء من أولئك الموظفين، أو المراجعين، هو من تضييع الأمانة، ومن إضاعة حقوق هؤلاء المنتظرين ومما سيسأل عنه يوم القيامة ويقتص فيه. ومن أعظم صور تضييع الأمانة فيما يتعلق بالوظائف أن يوسد العمل إلى غير ذوي الكفاءة، مع وجود من يقوم به خير قيام، لمصالح شخصية أو غيرها فينتج عن ذلك ضياع عظيم وفساد عريض، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: ما ضياعها يا رسول الله ؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
هذا شيء موجز من الواقع فيما يتعلق بتضييع أمانة الوظائف والأعمال فما هو المأمول؟!
المأمول ما دل عليه الكتاب العزيز وسنة الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: «قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين» إن القوة والأمانة هما من أعظم ما ينبغي تحققهما في الموظف أو العامل، والقوة يراد بها قدرته على إنجاز وأداء ما يكلف به من أعمال، والأمانة يراد بها أداؤه للأعمال كما يجب، وحفظه لها، والآية قد وردت في قصة نبي الله موسى عليه السلام عندما سقى للمرأتين وقد ظهرت قوته في رفعه للصخرة أو الحجر عن البئر، وظهرت أمانته في تعامله مع المرأة عندما طلب منها أن تمشي وراءه وفيما ظهر لها في الموقف من حديثه وسمته وخلقه.
ولا بد من اجتماع الأمرين: القوة والأمانة، فقد يكلف بالعمل من هو أمين إلا أنه ضعيف الشخصية لا يستطيع الضبط وليس لديه حزم فتضيع الحقوق بضعفه أو قد يكون ضعيف الأداء ولا يعرف الإنتاج ولا البذل فتكون ثمرته «لا شيء»، وقد يكلف القوي ذو الحزم إلا أنه لا يكون أميناً فيتلاعب بالمهام والصلاحيات أو الأموال أو الممتلكات وغيرها ومن عدم الأمانة أن يكون دينه رقيقاً لا يخاف من الله ولا يخشى من أكل المال بالباطل، ويؤكد هذا المعنى ما ورد في قول نبي الله يوسف عليه السلام عندما قال للعزيز: «قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» فقد ذكر الحفظ وهو من الأمانة، فإن الأمين هو الذي يحفظ الحقوق ويؤديها، وذكر العلم وهو المعرفة بالأمور وخبرتها وإدراك ما يجب حفظه، وهذا من الأمانة لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن أداء الأمانة يوجب معرفة كيف يكون أداؤها وحدود ذلك، وأيضاً العلم يتضمن الإشارة للقوة على التنفيذ، فهو يعلم أنه أهل لتحمل الأمانة ولحفظها وقادر على أداء ما يجب عليه فيها.
إن الوظائف هي بمثابة عقود بين الموظف وصاحب العمل، سواء أكان صاحب العمل هو الدولة أو شركة، أو شخص، والإسلام قد أوجب الالتزام بالعقود قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» وإن مما سيسأل عنه المرء يوم القيامة: «وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟» رواه الترمذي وقال حسن صحيح وصححه الألباني، فإن كل من يأخذ أجراً على أي عمل يؤديه يجب عليه أن يؤدي العمل بما «يحل له» الأجر الذي يأخذه، وذلك بأدائه كما تم الاتفاق عليه ، بل إن الإسلام يأمر بإتقان العمل وتجويده، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» رواه البيهقي وحسنه الألباني.
لتتكاتف الجهود ولنسعى جميعاً لنأخذ بأيدي بعضنا إلى ما فيه خير ديننا ودنيانا، ولنؤدي ما يجب علينا من أمانات، حتى تطيب مكاسبنا ونسلم مما لا يحل علينا، والله الهادي سواء السبيل.
صحيفة الإنتباهة
ع.ش