قراءة في قضايا الراهن ( حسن مكي ) 2
نتابع بقية الحوار الذي أجرته صحيفة المجهر السياسي مع البروفيسير حسن مكي :
” يقول بعض المراقبين إن هنالك غياباً واضحاً للتفكير الإستراتيجي تجاه أفريقيا ويدللون بأن ما فعله “عبد الناصر” لم يستطع الإخوان المسلمون فعله اليوم؟*
– مصر الآن في سنة أولى حكم، وسنة أولى حكم هذه لا يستطيع حتى أن يتدبر.. ما زال الرئيس المصري الجديد يسكن في شقته حتى الآن في مصر الجديدة ولم يدخل قصر الحكم بعد. لذلك لا يمكن أن تطالبه بـ”عبد الناصر” العام 1962.. “عبد الناصر” بدأ اتجاهه مع أفريقيا مع “محمد فائق” في ذلك العام، أيام “باتريس لوممبا”، وهو كان مسنوداً بالاتحاد السوفيتي وبالكتل الجديدة مثل دول عدم الانحياز التي كان فيها “جواهر لال نهرو” و”تيتو”، وكانت هذه بدايات الانعتاق من الاستعمار والتحول الكبير، كما أنه استخدم الأزهر. لكن لماذا ذهب كل ذلك سدى؟ ذهب لأنه لم يقم على مقومات ثقافية، مثلاً علاقته بـ”نيكروما” أسفرت عن زواج “فتحية القبطية” بـ”نيكروما” المسيحي، لكن (غانا) إلى الآن ظل لسانها اللغة الإنجليزية، ولم يكن هنالك مشروع عروبي متقدم، وهذا لا يقلل من قدر “عبد الناصر”، فهو بالتأكيد زعيم عظيم له ما له وعليه ما عليه، له أنه رفع صوته ضد الاستعمار ورفع صوته بالأفريقانية، وحاول أن يتكتل مع “موديبو كيتا” في (مالي)، ومع “سيكوتوري” في (غينيا كوناكري)، ومع “نيكروما” في (غانا)، ومع “لوممبا” في (الكونغو)، ولكن استبداده الدكتاتوري أضعف جبهته الداخلية، لذلك في 5 يونيو تم القضاء على مشروع “عبد الناصر” بأكمله في (6) ساعات، ومات مأزوماً، ومات (ثلث) الزعيم الذي يموت وأرضه محتلة، واقتصاده منهك، وشعبه جائع. وهذا يحتاج إلى إعادة قراءة، ويحتاج إلى أن تسير الحركة المصرية في نفس الأزقة التي سار فيها “عبد الناصر”.. لابد أن تفتح آفاقاً جديدة.
ماذا عن صراع المياه؟**
– هذا الصراع بدأ في فلسطين وإسرائيل، لأن ليس هناك نقطة ماء، وفي اليمن لأنه يقال بعد (4-5) أعوام صنعاء ستكون قاحلة، أما نحن في السودان، فالحمد لله هذا النيل سيظل يرفد، وحتى سد الألفية الذي ستقيمه أثيوبيا سيكون بالنسبة للسودان أملاً ورخاء، وأكثر دولة في العالم ستستفيد هي السودان. لكن عيب هذا السد، عيب واحد، هو المسألة الأمنية، فهذا السد سيقوم بتخزين أكثر من (55) مليار متر مكعب من المياه، أي خمسة أضعاف سعة خزان الروصيرص بعد التوسعة، أو بحوالي (6) مرات، و(3) مرات سعة خزاني (مروي والرصيرص) و(جبل أولياء) من المياه، فالخطورة أن هذا السد مقام في منطقة عالية هي منطقة (بني شنقول) وعلى بعد (23) كلم من الحدود السودانية، فإذا ما تصدع هذا السد نتيجة لضغط المياه فإنه سيغرق كل السكان على امتداد النيل الأزرق، وسيُحدث دماراً كبيراً، لأن المياه المتدفقة لبحيرة سعة (55) مليار متر مكعب من المياه وهي ستتدفق وقت الخريف، فالخريف إذا كان إيراده (100%)، معناه أن النيل سيزيد مرة وثلثاً، فأين ستذهب هذه المياه؟ حتماً ستنتشر على الشواطئ.. هذه هي المشكلة الوحيدة، لكن بالنسبة للطاقة الكهربائية فسيغذي كل منطقة النيل حتى جنوب السودان، كذلك سيستفيد منه السودان في الري بشق ترع حتى الخرطوم، كما أن تخزين المياه في منطقة رطبة أفضل منه في عطبرة أو الروصيرص.
علاقات السودان بأثيوبيا ؟***
– إذا كانت هناك حكمة، فالعلاقات ستظل جيدة، لأن الدستور الأثيوبي يمنح الأقليات حق النمو، والقوميات الأثيوبية حينما تنمو كلها ستكون متجانسة مع السودان، مثلاً نمو القومية (الأمهرية) يعني نمو العلاقات ما بين منطقة القضارف وإقليم الأمهرا، ونمو (الأرومو) وبني شنقول، هؤلاء نصفهم سودانيون، والآن في دستورهم باتت العربية لغة أساسية في الإقلي.
القومية الصومالية كلهم درسوا في السودان ماذا عن إريتريا ؟****
– إريتريا هي جزء من إقليم القاش، أصلها جزء من (التاكا) وحاكمية الجغرافيا والتاريخ تدفقات تجارية، والآن هي في حالة تكامل قهري.
هذا يقودني للسؤال عن مستقبل التحالفات الأفريقية وهي المأزومة بتدخل اللاعبين الكبار فرنسا وأمريكا وأخيراً الصين ؟*****
– أمريكا ليس لها من سبيل نجاة من الناحية الثقافية إلا خيط الثقافة العربية الإسلامية، نيجيريا الآن تحاول الرجوع إلى “عثمان دان فوديو” وإلى “أحمدو بيلو”، لأن البديل هو الفساد، نيجيريا أكبر دولة فاسدة في العالم الآن، لأنه ليس فيها فيض روحي، والكونغو تعدّ معجزة (جيولوجية)، فيها النحاس واليورانيوم والذهب والكوبالت والفضة والأخشاب، لكنها الآن أفقر دولة، لأنها ليس فيها خيط ومنظومة ثقافية روحية تقوم بتنظيمها، وكذلك انظر إلى جنوب أفريقيا التي لولا رضا الرجل الأبيض عنها فهي أسوأ بلاد الله، لأن مستوى دخل الرجل الأبيض- حوالي (6) ملايين شخص- يعادل (6) أضعاف الرجل الأسود، والأراضي الزراعية الخصبة والمنشآت الاقتصادية تجد فيها تفاوتاً اقتصادياً كبيراً، ليس عندنا الآن تفاوت كبير بين السودانيين، يعني مجموعة بشرية مثل (ناس الخرطوم) يكون دخل كل واحد ستة أضعاف المجموعة البشرية التي تسكن في مدينة ود مدني مثلاً، هذا ليس موجوداً هنا، فالدخل متجانس. صحيح، توجد طبقة فقراء في الخرطوم، وفي كسلا، ولكن هم يرون هذا التفاوت، أنظر الآن إلى عمال المناجم حينما ثاروا كان طعامهم هو الرصاص والقهر، وهم يمجدون “مانديلا” لأنه تخلى عن نضاله، وقال (للسود السلطة السياسية وللبيض السلطة الاقتصادية)، وقبل بالمشروع الإنجليزي، كما قبل بالمشروع الكنسي.. جنوب أفريقيا بها فوارق اقتصادية كبيرة على عكس “موقابي” في زيمبابوي، الذي قال: (لابد من تحرير الأرض من قبضة المستعمرين)، ولذلك قامت عليه الدنيا. ولا نريد أن نقلل من دور “مانديلا” فهو عمل (فرشة) للشباب الجديد، وعلى هذه (الفرشة) سيستندون، لأن الآن مشروع التحرر السياسي سيعقبه الإصلاح الزراعي، وسيعقبه مشروع اقتصادي للأفارقة، لذلك فإن المرحلة القادمة لابد أن يبرز فيها “مانديلا” جديد في جنوب أفريقيا ليقود، لأن الفوارق الاقتصادية الآن ما بين الأسود والمستوطن هي بنسبة (1:6) بمعنى إذا كان مستوى دخل الأسود هو (300) دولار، فإن مستوى دخل الأبيض هو (2000) دولار، فالمطلوب أن يكون هنالك سود أغنياء وبيض أغنياء، لكن لا يمكن أن يكون كل السود فقراء باستثناء اثنين أو ثلاثة، وكل البيض أغنياء. هذا وضع شاذ. لا يمكن أن تكون البيوت الجميلة والحدائق الغناء والسيارات هي ملك للبيض دون السود.. في السودان الحمد لله لا توجد هذه التشوهات، صحيح لدينا النازحون واللاجئون، لكن لا فرق بين من يسكنون في (مروي) ومن يسكنون في (كسلا)، تجد الأرزاق متشابهة والبيوت كذلك والأطعمة، والإنجليز كانوا يقولون عنه إنه مجتمع مساواة ومتشابه ومنمط.
ماذا عن شمال أفريقيا ؟******
– أفريقيا لا بد أن تتجه إلى شمالها وتتحالف، وحينما تتحالف أفريقيا مع بعضها البعض لن تجد غير الميراث الثقافي الروحي الإسلامي، الرباط الثقافي القائم ما بين نيجيريا والسودان ومصر هو رباط الثقافة الإسلامية، وهو رباط روحي، يجب أن يتكامل معه رباط اقتصادي واجتماعي. لقد تغيرت الطرق مع الاستعمار، فتلك التي كانت تتجه من كانو في نيجيريا إلى الفاشر وكسلا و(درب الأربعين) مصر ومن مالي، هذه الطرق أعاد الاستعمار تشكيلها بحيث أصبحت (لاغوس) تتجه مباشرة إلى أمريكا، أو بريطانيا وأهملت الدواخل، وكذلك الموانئ الأفريقية كلها أصبحت نسخاً منمطة من الموانئ الأوروبية. لقد تغيرت الخريطة التجارية والاقتصادية، لكن كل ذلك يقوم على نهب موارد الدول الضعيفة، فالخريطة الاقتصادية التي تغيرت لم تتغير لمصلحة الشعوب، وسيكتشف الناس أنه لابد من إعادة تغيير هذه الخريطة، وأن تتجه إلى الداخل، وأن يبدأ التكامل الاقتصادي من الداخل مثلما يحدث في أوروبا الآن، من تكامل اقتصادي وتعرفة جمركية موحدة، وكذلك العملة.. أفريقيا تحتاج إلى مثل هذا المشروع، حينما يتجه المشروع الأفريقي إلى الداخل فإن التأثير الخارجي سواء أكان ثقافياً أم اجتماعياً أو عالمياً سيضعف، وستصبح صادرات نيجيريا تباع في الخرطوم، وبرتقال جنوب أفريقيا كذلك، وخضروات الخرطوم تذهب إلى مصر، ويكون هنالك سوق اقتصادي موحد.
نعود إلى أكثر الدول المتضررة من حرب المياه ؟*******
– لا أعتقد أن مسألة حرب المياه هذه واردة، الإسرائيليون يخيفون الناس من هذه المسألة. طبعاً المشروع الإسرائيلي ضرب أخماساً في أسداس، حيث لا مياه البحر كافية بالنسبة له ولا المياه الجوفية، ونهر الأردن قد نضب، ولا مصادر للمياه في سوريا ولبنان سالكة بالنسبة إليه، فكان يفكر في مياه النيل لذلك كانت (ترعة السلام) وري (صحراء النقب) من النيل، ويريد للدول الأفريقية أن تصبح المياه سلعة، بحيث يشتري المياه من الأعالي وتسلمها مصر لإسرائيل كما تسلم البضائع لقناة السويس، حيث تسمح لها بالمرور، تسمح للمياه بالمرور.. هذا رأيي، إلا إذا كان التاريخ يسير باتجاه عكسي، التاريخ يسير في اتجاه صاعد، والناس يعلمون أن المياه هي الحياة لهذه الشعوب وسيحافظون عليها، وأعتقد أن التداخل ما بين شعوب القرن الأفريقي، هو للانسجام والوحدة والتكاتف والسلام وليس للحرب.
بعض الكتابات الإسرائيلية قالت إن الإدارات السودانية المتعاقبة فشلت في إحداث تنمية تجعل هذا البلد يلعب دوراً رائداً في أفريقيا ؟ ********
– لن يكون للسودان دور إستراتيجي في أفريقيا بدون تشييد الطرق.. من ميامي إلى نيويورك يمكنك أن تذهب براً وبحراً وجواً على سبيل المثال بالنسبة للحالة الأمريكية، لكن الآن في السودان إذا أردت الذهاب إلى الجنينة لن تستطيع الذهاب لا جواً ولا بحراً، فكيف يكون هذا بلداً واحداً بدون طرق.. السودان له دور في أفريقيا، وأفريقيا نفسها متهالكة ليس فيها طرق.. الغناء السوداني الآن منتشر من (جيبوتي) إلى المحيط الأطلسي، والثقافة السودانية والحرف العربي والجامعات، فجامعة أفريقيا العالمية مثلاً يُتكلم فيها، صدق أو لا تصدق، أكثر من (200) لغة أفريقية وهؤلاء الطلاب يرجعون إلى بلادهم كزعماء.
هنالك حديث متزايد عن احتمال توجيه إسرائيل ضربة لإيران.. ما تأثير ذلك على المنطقة في حال حدوثه ؟*********
– إيران ستمتص الضربة، فمن قبل وجهت ضربة عسكرية لأمريكا ماذا فعلت؟ أيقظت الحماس الوطني هناك.. ألمانيا دُمرت بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها الآن توحدت ونهضت وأصبحت أكبر قوة اقتصادية.. واليابان نفسها ضُربت بالقنبلة الذرية لكنها الآن تعدّ القوة الاقتصادية الثانية أو الثالثة في العالم.. والصين حتى السبعينيات لم تكن موجودة حتى في الأمم المتحدة، كانت دولة منبوذة، الآن هي صاحبة (فيتو) وقوة تشكل العالم.. إيران أيضاً قوة صاعدة وستظل كذلك، وإيران ليست ابنة مشروع الثورة الإيرانية، بل هي قوة لها (5) آلاف عام. الثقافة الفارسية ثقافة راسخة وموجودة مع (الخيام) ومع (الفردوسي)، وستظل موجودة، ومشكلة التاريخ في هذه المنطقة.
المنطقة العربية أضحت ساحة صراع خليجي إيراني ؟**********
– هذا كله مدافعة، وما يمكث في الأرض هو ما ينفع الناس، وهذا الصراع سيُبرز الأحسن والأفضل في قدرات هذه الشعوب، ونحن شبعنا من الكلام المعسول وشد الحقائب إلى الغرب، نحن نحتاج إلى مشروع جديد يلم شعث كل هذه المنطقة، فالآن الصراع فيها كله من أجل تمكين المشروع الأمريكي والعولمي.
هل احتمال صدام سني شيعي وارد ؟***********
– هو صراع قديم كان موجوداً لو قرأت الدولة (الصفوية)، أو قرأت حينما قامت الحركة التجديدية لـ”محمد بن عبد الوهاب”، دخلت في صراع ومذابح في هذه المنطقة، والصراعات فيها العنصر الداخلي والعنصر الخارجي، لكن في النهاية إرادة البقاء والتجانس هي الأقوى.
تم إجراء هذا الحوار في صحيفة المجهر السياسي وتم نشره بتاريخ 4-6/11/2012 .
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]