قلة المارة عبر شوارعه بدد أمل العثور على معلومات، فالناس هنا يحتفظون بقدر عالٍ من الخصوصية.. وفجأة تسربت إلينا خيوط الإختيار الموفق على يدي أسرة “عبد العزيز” وهم من سكان الحي القدامى، تحدثت الخالة “آمنة بيومي الرفاعي” وعادت بنا إلى الوراء قائلة: نحن كنا ساكنين (بيوت الموظفين) في الخرطوم غرب جوار المحكمة، ثم أتينا إلى هذا الحي في العام 1952م وأبوي مهندس سيارات في النقل الميكانيكي، ولما كنا أطفالاً كانوا ببنوا في كبري الحرية الذي أُفتتح أيام “عبود”، وأذكر وجود ناس الحملة المصريين معانا بالحي.
ثم التقط الحديث ابنها “فتحي عبد العزيز يوسف” عائداً بنا إلى طفولته: كنت أدرس بـ(المدرسة الأميرية) وأعيش على صوت صافرات القطار، فالسكة الحديد كانت حينذاك في قمة مجدها تأتي إلى المخازن محملة بالتمر، صفائح الجبنة والبطيخ، وعند جلب المواشي كنا نذهب لنستمتع برؤيتها.
ومن أسرة (آل كمير) تحدثت إلينا “آمال إسماعيل كمير” قائلة: كنا نسكن في وسط الخرطوم (السوق العربي) الآن، ثم أتينا وبعض العائلات إلى هنا، درست بـ(مدرسة الخرطوم غرب) التي تسمى (ست زينب) ثم المدرسة الفرنساوية.
وفي ختام جولتنا إلتقينا بذاكرة الحي المتقدة “فؤاد جاد محجوب الحكيم” وهو مهندس طيران بالقوات الجوية، تحدث إلينا بدقة عالية وترتيب ربما إستلفه من شكل البيوت المتراصة بشكلها الهندسي البديع ذات التصميم الإنجليزي، فبدأ لنا من الاتجاه الشمالي للحي وهو يجاور موقف ( كركر) للمواصلات، وأشار قائلاً: هنا كانت استراحة الجيش المصري التي تحولت ملكيتها فيما بعد للري المصري ثم إلى البعثة التعليمية ومصانع آيس كريم ولحوم (لولي)، بالإضافة إلى (مصنع التصوير الملون) و(جامع كمير) الذي بناه المرحوم “حمزة علي كمير” في العام1957م، وأول من سكن هذا الحي هو “الفرد تكلا” قبطي سكن 1935م قبل دخول الكهرباء وكان معتمداَ على (الرتينة)، ومعظم من سكنوا هذا الحي أتوا من (الخرطوم غرب)، فأعطتنا الحكومة هذه الأراضي بمساحة (700-875) متر، وكانت تخصم قيمتها حوالي (قرشين) من الرواتب، وتم بناء حوالي (9) منازل وجميعها تم استئجارها لعديد من الجنسيات كالأغاريق، الهنود، الروس والشوام والأقباط الذين كانوا يعيشون حياتهم كما في “أوربا”، والنساء يمارسن رياضة المشي، والأطفال يلعبون بكل حرية في الشوارع لدرجة أنك قد تلح بالسؤال على نفسك.. هل أنا في “السودان” أم “أوربا”؟ الشوارع المسفلتة والمنازل ذات الأسوار العالية وذات الطلاء الأبيض وزهور الياسمين تملأ الطرقات، ومن هنا جاءت تسمية (حي باريس) لأن أصحاب التكاسي من نوع (هيلمان كانون) كانوا يمرون بالحي ويرون النساء يمارسن رياضة المشي والجميع يعيش بحرية مطلقة، فأطلقوا عليه هذا الاسم من باب المداعبة، لكن غادر معظم الخواجات الحي في أوائل الستينيات ومنهم من بقي وأخذ الجنسية السودانية كالخواجة “خريستو”.
تم تحول متحدثاً عن أشهر وأوائل الأسر التي سكنته منهم (آل حكيم) وجدهم “حسن الحكيم”، وهو طبيب حمله “عمرو ابن العاص” في الفتوح الإسلامية إلى “مصر” ومنها جاء إلى السودان واستقر في “دنقلا العرضي”.
وأيضاً (آل حسب الرسول) تاجر جملة من منطقة “النوبة” ريفي “المسيد” ولاية الجزيرة، من أبنائه “مأمون” تاجر جملة و(مدير نادي الخرطوم)، “طه حسب الرسول” الذي تدرج حتى وصل مدير تعليم منطقة الخرطوم ومدير امتحانات الخرطوم، وهو رمز ساطع من رموز الحي. أما (آل كمير) سكنوا في أواخر الخمسينيات (57 59)، وكانوا أيضاً في منطقة السوق العربي ومعظم أملاكهم حتى الآن موجودة هناك ومنهم “حمزة” و”عباس” يمتلكان مصانع زيوت وصابون وبسكويت وشعيرية.
وهناك (آل عبد الرحمن صغيرون)، (آل زكريا)، القاضي “يحيى عمران” وكان صاحب أعلى منصب في القضاء وهو من قام بإنشاء حديقة الحي، و(آل كنجاري) للحوم و(كنجاري للطيران)، (آل حمدتو) وهم مشهورون بصناعة الكنافة والباسطة على مستوى العاصمة المثلثة، (آل بابكر جعفر) أشهر تجار فاكهة، “زكي سليم”، (آل أنسي)، (آل البطري عبد الله شافعي)، وهو من أصول مصرية تركية كان يختم على جميع الذبائح في السلخانة.
أبرز نجوم (حي باريس)
د. لويس عبده
افتتحت عيادته في العام 1952م وهو قبطي يحفظ القرآن رغم مسيحيته ويده شافية فيها البركة، مقابلته بقرشين إلى أن أصبحت قبيل وفاته جنيهين، يعالج الفقراء قبل الأغنياء بمعدل (700) حالة في اليوم، ويمتلك منزلاً عبارة عن تحفة معمارية.
حسن عطية
الفنان “حسن عطية” سكن في هذا الحي وأحال أيامه إلى بهجة دائمة وأصبح من أبنائه، وعمل باللجنة الشعبية وكان من زواره “أحمد المصطفى”، “سيد خليفة” و”عبد الحميد يوسف”، “إبراهيم عوض”، “عثمان حسين”.
صحيفة المجهر السياسي
ت.إ[/JUSTIFY]