في كل مرة يتحدث الدكتور الجميعابي تكتشف أنه يحتفظ بخزانة أسرار مهولة، وأن لديه ما يود أن يقوله لله والتاريخ.. وضع الطبيب الإسلامي الذي ركل المهنة مشرطه على جسد الحركة الإسلامية بمهارة فائقة وبدأ يغوص في الأنسجة الحية.. كان نهاراً دافئاً والقرية التراثية التي تحتضن مشروعه الثقافي والاجتماعي تحدث عن نفسها، وبصوت عنيد يسكب المزيد من الإفادات الجريئة. طوال تلك الفترة من عمر الخلاف بين الإسلاميين، ظل الدكتور محمد محيي الدين الجميعابي يلوذ بالصمت تارة، وينشغل أحياناً بالعمل الإنساني، ولكنه في قرارة نفسه كان مفجوعاً بما جرى، مكلوماً، يصعد على سيارته كل جمعة ويحتمي بمسيد جده في (الجميعابي) ومن ثم يصعد المنبر ليلقي خطبة الجمعة. على مقربة من ذلك الدخان ظل الرجل يتأرجح في قوائم التصنيف السرية من (وطني) إلى (شعبي) إلى (إصلاح)، حتى انفتحت الأبواب للريح بزيارة الرئيس البشير له في دار المايقوما منذ سنوات خلت، تلك الزيارة المفاجئة التي دار فيها حديث طويل يشف عن حال الإسلاميين، وتلتها لقاءات للمكاشفة.
الجميعابي هو كتلة من القلق والبحث الدائم عن هدف يليق بأشواقه؛ جريء، لا يبالي.. مذ أطلق صرخته الأولى في الجزيرة، وحتى هتافاته في شوارع جامعة الخرطوم العتيقة، وصعوده إلى عضوية شورى الحركة الإسلامية، ومن ثم أصبح محافظاً لأم درمان ومحافظاً للدامر على طريقة النفي والإبعاد، ومن ثم كان وكان، كل هذه التجربة تتوارى تحت رموش عينيه وابتسامته الغامضة. طافت كؤوس الأسئلة على محطات ومجالس وأسماء، الرئيس البشير، المجموعة التي غادرت، الشيخ الذي لم تبارحه الأضواء، غازي صلاح الدين وإسحق فضل الله وما أشيع عن طبخة تمثيلية في المفاصلة وغيرها، فإلى مضابط الحوار.
**
* لو بدينا بسؤال افتتاحي؛ إنت الآن موقعك شنو من السلطة؟
– أنا أتحدث باسم التاريخ.. لست قيادياً في الحركة الإسلامية ولا في المؤتمر الوطني على أي مستوى.
* يعني أصلاً هو في حركة إسلامية فاعلة؟
– يوجد ما يسمّى بالحركة الإسلاميّة، ومع أنّني كنت أميناً لها في العاصمة، وكنت أحد الذين ثبّتوها في الجامعات والمعاهد العليا وأفنينا فيها زهرة حياتنا، لكنني الآن غير موجود في صفوفها بالأساس ولا في أي مستوى مؤثر في المؤتمر الوطني.
* غادرت أم غدورا بك؟
– الأمر واضح.
* “فليغادروا بالجملة”، عبارة شهيرة قلتها قبل أكثر من عام.. والآن؟ ثم ماذا؟
– القرارات الأخيرة كانت على حساب مراكز القوى والذين سيطروا على قيادة المؤتمر الوطني، وهو قرار صائب جداً من الأخ الرئيس، وأذكر أنّني كنت ألاحق الرئيس قبل (13) سنة بإعلان هذه القرارات الشجاعة.
* لماذا؟
* كثير من الذين جثموا في صدر القيادة السياسية توجهاتهم كانت سالبة في تطور المؤتمر الوطني وفي تطور الحركة الإسلامية على مسار الحكم، هم الذين كمموا الأفواه وقدموا تجربة شائهة جداً.
* وبالنسبة للبدائل هل تبدو مقنعة؟
– البدائل التي قدمت معظمهم من ضعيفي الخبرة أو الذين يفتقدونها تماماً.
* ترى، ماذا يمكن أن تكون الخطوة الثانية؟
– أن يتعمق السيد الرئيس في التغيير ويهز مراكز القوى جميعها ويتعمق في تغيير السياسات، ولكن حذارى أن تلتف هذه القيادت وتعود لأخذ مواقعها أو مواقع قيادية قريبة في الحزب والدولة.
* واضح أن الدكتور الترابي عائد وبمشروع سياسي كبير.. هل تعتقد ذلك؟
– بالنسبة لي وقت عودة شيخ حسن لم يأت بعد، ولكنه يظل صاحب قيادة متميّزة وهو صاحب الفضل على كل هذه القيادات التي تظهر الآن.
* إذن على الأقل المرارات القديمة بدأت تتلاشى؟
– ربّما تقل المرارات بين الإسلاميين، لأنّ الذين قادوا الشقاق والانقسام والإجراءات العنيفة ضد الفصيل الآخر معظمهم الآن قد غادر الأجهزة المختلفة.
* هل غادروا بالفعل؟
– في الظاهر أنّهم قد غادروا.
* ما الذي يوحيه لك ذلك؟
– أنا أذكرك بأنّني قدت مبادرة تجديد القيادات التي طرحتها إبان المفاصلة، وطالبت فيها بأن نبعد حتى ولو لفترة الذين يتحمسون للشقاق من الوطني والشعبي، يتقدمون خطوتين للوراء ونتحرك بكوادر أخرى حتى نحافظ على وحدة الحركة الإسلامية ولكنهم قاوموا هذه الدعوة مقاومة عنيفة.
* قبل أيام كتب إسحق أحمد فضل الله أن المفاصلة مجرد مسرحية، وأن الإسلاميين أذكى أهل الأرض؟
– إسحق أحمد فضل الله يتحدث من عالم آخر، هو نفسه إسحق الشخصية التي ردحت وأساءت وألصقت أقبح التهم في شيخ الترابي.
* ولو كان صادقاً في ما يقول؟
– لو كان صادقاً فليحدّثنا عن رأيه الذي كتبه من قبل في الترابي، حتّى يأتي ويصفهم الآن بالذكاء! هو لا يعرف شيئاً عما يدور داخل الحركة الإسلاميّة، ما يكتبه مجرّد تخاريف.
* حسناً؛ هو ممكن يكون نفسه جزءا من اللعبة يكتب بقسوة حتى يبتلع الناس الطعم؟
– معقول إسحق وصل أن يكتب من النقيض إلى النقيض ليصدّقه الشارع؟ هذا كلام غير مقبول، المفاصلة لم تكن مسرحية.
* طيّب كانت شنو؟
– كانت مؤامرة معظم أصابعها أصابع أجنبية، وأدواتها والجهات التي نفذتها جهات داخليّة.
* أنت أيضاً تؤمن بنظرية المؤامرة؟
– لا لا أنا مقتنع تماماً أن الذي تم في السودان كان مؤامرة، والجانب الأجنبي فيها عال جداً، وأنا لا أريد أن أفشي سراً.
* إذن ما الذي جرى؟
– عندما قدت مبادرة تجديد القيادات أحد الذين كانوا في هرم الدولة جاءني مجموعة من القيادات على رأسهم الراحل مجذوب الخليفة، تاج السر عبدون، الطيب إبراهيم، الحضري.. كانوا أكثر من (15) قيادياً وطلبوا مني أن أسحب مبادرة تجديد القيادات، وأحدهم كان يصرّ عليّ -وهو شخصية سياسية نافذة في الدولة- قال لي بالحرف: إذا نحنا لم نبعد حسن الترابي يوم الاثنين، في اجتماع الشورى من الحركة الإسلامية، الأمريكان حيضربونا يوم الخميس.
* هل تعتقد يا دكتور أنّ الدفع بالفريق بكري حسن صالح لموقع النائب الأول هو رسالة تطمين للقوات المسلحة؟
– لا لا.. أنا لا أنظر إليها باعتبارها رسالة تطمين للقوات المسلحة، لأن القوات المسلحة في ظاهرها ليست مركز قوى يتدخل في السياسة، ولكن الأخطر من ذلك قاله أمين حسن عمر.
* كنت سوف أسألك عنه أيضاً؟
– كلام أمين خطير، وهو يتحدّث أنّه لو قامت حكومة وحدة وطنية نخشى أن يتدخّل الجيش، وهذا اتّهام قبيح من قيادي في المؤتمر الوطني.. هذه الكلمة يجب أن يعتذر عنها أمين ويجب أن تحاسبه القيادة السياسية في المؤتمر الوطني.. لا يمكن أن نقبل كلامه بأنّ القوى السياسية إذا وصلت إلى اتفاق، الجيش سوف يتدخل وينتزع السلطة..! هذا كلام غير مقبول.
* تفتكر ليه المؤتمر الوطني وبعض الشخصيات فيه رافضة للحكومة القومية؟
– حفاظاً على مواقعهم.. حفاظاً على المواقع التي يتقلّدونها وهم يعلمون أنّهم غير مؤهّلين لها.
* إذن إلى ماذا سيفضي الحوار الذي يدور الآن؟
– الحوار في تقديري هو المخرج الوحيد الذي يمكن أن يؤمن مسار السودان المستقبلي؛ لابد من حوار، لابد من وفاق.
* طيب وبالنسبة للوثبة التي اجترحها المؤتمر الوطني وأقبلت عليها القوى السياسيّة؟
– أطروحات المؤتمر الوطني حتى الآن غير واضحة.. الخطاب الذي ألقاه الرئيس جاء في ظل تعبئة كبيرة جداً وارتفعت سقوفات الناس، ولذلك أصيبو بالإحباط فيما بعد. الناس كانوا يتوقّعون انفراجاً سياسياً.. يتوقّعون وفاقاً قومياً وبسطاً للحريّات، وكانوا يتوقّعون مرحلة انتقالية أو مجلسا رئاسيا، ومزيدا من الشورى والشفافية وتقديم تنازلات.
* من الذي ارتكب خطأ التعبئة؟ فهم يتبرأون منها؟
– فليرجعوا للصحف بالتواريخ، كلّ البشارات والتصريحات التي تحدثت عن مفاجأة كانت هي تصريحات قيادات بارزة في الحزب.. الذين قادوا التعبئة هم قيادات المؤتمر الوطني.
* عندما رأيت شيخ حسن وغازي والإمام الصادق المهدي في القاعة، ما الذي دار في رأسك؟
– هذا بصيص أمل في الوفاق الوطني، لو صدقوا وصدقت الدولة يمكن أن تكون هنالك انفراجة كبيرة.
* من الذي بيده تحريك الملفات؟
– السيد الرئيس شخصياً، وهو الوحيد المؤهّل لقيادة عمليّة التغيير.
* متى التقيت الرئيس آخر مرة؟
– في غضون ثلاثة إلى أربعة أسابيع تقريباً.
* ما الذي دار بينكما؟
– تحدّثت معه، ووعدني بتغيير كبير جداً، يطال كثيرا من مراكز القوى والسياسات، وقال لي: “أنا خلال هذا العام البلد دي بنضّفها”، وقال لي: “الرئيس القادم بعدي بسلّمه بلد مرتّب وجاهز للانطلاق، ولن أترشّح مرّة أخرى”.
* دي بشريات كبيرة؟
– نعم، وأنا أثق تماماً في ما يقوله الرئيس، ومن زمان أعلّق كثيرا من الآمال عليه، ولكنّني لا أثق في مؤسسات المؤتمر الوطني بكل أسف.
* لماذا؟
– في رأيي أنّ المؤتمر الوطني يتمتّع بقيادات معظمها ضعيفة.
* لماذا هو مصرّ على قيام الانتخابات في مواقيتها حسب تقديرك؟
– لأنه يعلم أنّه سيكتسح الانتخابات، وهو يريد أن يكنكش ويحوز على كل شيء.
* الذي أعلمه أنّك مؤتمر وطني؟
– أنا مؤتمر وطني، ولكنّني لا أقبل بذلك، أريده أن يمنح الأحزاب حقّها في التنظيم والدعم، المؤتمر الوطني يحكم لوحده، وهذه الأحزاب التي يتحدّث عنها ويحاورها ما عندها سند جماهيري، ولا ثقل سياسي، وهي موجودة في السلطة، وغير موجودة وسط القواعد.
* هل تتوقّع أن تتأجّل الانتخابات، وينتصر سيناريو مغاير على الترتيبات الحاليّة؟
– أصلاً إذا كان هنالك حوار سياسي، لابدّ من الحديث في المرحلة القادمة عن شكل من أشكال الحكومات، أو التوافق السياسي الذي يجيز الدستور، ويجري انتخابات حرّة، ويقود إلى تحالفات، تؤمّن مستقبل السودان، وإذا تمّ هذا، فلابدّ من تأجيل الانتخابات، حتى تستعدّ لها كل الأحزاب.
* الخروج الكبير والمدوّي للدكتور غازي صلاح، من أيّ الزوايا قرأته؟
– رأيي في غازي معروف، وقلته قبل هذا الحدث؛ عندما بدأ يتكلم قلت لهم: “احترق ليموت”.
* كيف يعني؟
– أنا أحترم غازي جداً، ولكنه يتحمّل وزر انشقاق الحركة الإسلاميّة، هو عرّاب الانشقاق والمفاصلة.
* لكنّه الآن على الأقل يدفع الثمن؟
– نعم يدفع الثمن، والآن هو يغادر الحزب الذي كوّنه.
* الكثير من الرجال الذين قادوا المفاصلة الآن يغازلون شيخ حسن؟
– يغازلون ويغادرون، يغازلون الشيخ حتى يغفر لهم، هم آذوا الشعب السوداني وآذوا الحركة الإسلاميّة، ويحاولون أن يجدوا قدراً من الرضا لدى الشيخ.
* هل تعتقد أنّ للترابي دورا في المرحلة المقبلة؟
– طبعاً طبعاً، وهو عنده دور كبير جداً، وهو يمثّل عقلية الأب لكلّ الإسلاميين.. أنا شخصياً لم أنتم للمؤتمر الشعبي، ولكنّني أقرّ بالفراغ الذي تركه الترابي في السلطة والمسير.
* لندلف إلى موضوع أخير؛ الوجوه التي كوّنت حركة (وطنيون من أجل التغيير).. حسن مكي، الأفندي الطيب زين العابدين، التجاني عبد القادر؟
– هذه وجوه فكريّة مقبولة، وأتوقّع أن تكون لهم مداخلات في ترتيب الأوضاع السياسيّة، وهم درجة عليّة جداً من النضج والوعي السياسي، لكنّهم بالتأكيد لا يمثلون قيادة جماهيرية في البلد الآن.
* الآن تشتعل الحرائق في الجنوب بعد الانفصال، هل من نظرة؟
– الوضع في الجنوب مؤلم جداً، ولكنني أحمّل القيادة السياسية في المؤتمر الوطني، والتي غادرت، مسؤولية انفصال الجنوب.. صنعوا دولة فاشلة في الشمال، ودولة فاشلة أكثر في الجنوب.
* دعني أسألك عن المشروع الحضاري؛ هل يمكن أن تعرّفه لي بعد كلّ هذه السنوات؟
– هو مبهم، وهو مشروع فيه كثير من الفراغات، أنا لا أعرف حاجة تسمى مشروع حضاري؛ هل هو أنشودة؟ أغنية؟ كتاب؟ خلينا نقول هي أطروحة للحركة الإسلامية.
* وما هو المخرج للحركة الإسلامية؟
– أن تسعى للتوحّد؛ وحدة بين الوطني والشعبي والموجودين في التنظيمات الأخرى، بما فيهم أنصار السنة. كل الأحزاب ذات التوجه الإسلامي يجب علهم أن يلتقوا في المرحلة القادمة، ويصنعوا لهم أطروحة جديدة؛ لا تعزل اليسار، ولا تعزل القوى الأخرى، ولا تعزل حركات دارفور. لا مفر من تجميع الفصائل الإسلامية في كيان سياسي واحد، خصوصاً وأنّ ذات الدول الخارجية التي دفعت مليارات الدولارات في مصر، لإطاحة الإخوان، على استعداد أن تدفع مثلها وأكثر في السودان
حوار – عزمي عبد الرازق: صحيفة اليوم التالي
[/JUSTIFY]