عقب مفاصلة عنيفة استمرت قرابة العقد ونصف من الزمان، انقلب عليه الرئيس الذي تخيره ووصفه ذات يوم بأنه هدية السماء لأهل السودان، وتفرق الجمع إلى جناحي القصر والمنشية، واختار خلصاؤه جانب القصر دوناً عنه، ولم تشفع للترابي شيخوخته من السجن الذي زاره اضطراراً بأمر السلطات حوالي سبع مرات، إحداها كانت جراء موقفه الصارخ الذي طالب فيه الرئيس بتسليم نفسه للجنائية.
ما الجديد الذي دفع الترابي للمشاركة في نشاط دعا إليه حزبه القديم؟ هذا التساؤل ورد على لسان رئيس حزب المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ في حوار صحفي منشور. إذ قال «إن ظهور الترابي في خطاب الرئيس يحتاج لتفسير»، وفي السياق نفسه لم يخف أمين سر حزب البعث الريح السنهوري قلقه عندما طرح عليه السؤال نفسه في أحد اللقاءات الصحفية أن الترابي ملتزم بطرح التحالف حول أطروحاته للحوار مع الوطني، ولكنه عاد واستدرك قائلاً «الله يكضب الشينة».
ولنبدأ القصة بتوضيح الشعبي نفسه، فقد سبق لمسؤول الأمانة السياسية كمال عمر عبد السلام أن رد على سؤال «الإنتباهة» في مؤتمر صحفي بدار حزبه على خلفية انتقاد رئيس تجمع المعارضة فاروق أبو عيسى لمشاركة حزبه أن التقديرات قداختلفت وأن حزبهم بعد مداولات الأمانة العامة قرر المشاركة. أما القيادي بالحزب محمد الأمين خليفة فقد صرح للصحف بأن خطاب الرئيس كان إيجابياً وأن عليهم أن يوقدوا شمعة بدلاً عن لعن الظلام.
وقبل الخوض في لم حضر الترابي، علينا أن نشير إلى أن خطاب الرئيس والحراك الكثيف الذي ابتدره الوطني لدعوة الأحزاب للحوار، ووثيقته الإصلاحية التي هو بصددها حالياً، علينا أن نشير للخطوة الجبارة التي اتخذها المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم لربع قرن من الزمان، وهي إبعاد ــ في إحدى الروايات ـ الحرس القديم للإنقاذ والحركة الإسلامية عن سدة الحكم في الحكومة التي شكلها الوطني في نهاية العام الماضي، وأبرزهم نائبه الأول في رئاسة الجمهورية ولشؤون الحزب التنفيذية علي عثمان محمد طه، ومساعده في القصر ونائبه لشؤون الحزب التنظيمية نافع علي نافع، والقابض على الكثير من أسرار الحركة الإسلامية عوض أحمد الجاز، على إثر خلافات مع الرئيس. وذلك بالرغم من الرواية الثانية هي أن الحزب تحدث عن أن الكبار ترجلوا طوعاً إيماناً منهم بأهمية التجديد وإفساح المجال لضخ الدماء الجديدة في شرايين وأوردة الحزب الكبير. وفي حديث سابق أشار لي مصدر مقرب من دوائر الحزب ودولاب الحكومة إلى أن إقصاء الكبار تم بإمضاء وتوقيع الترابي نفسه، عبر اللقاءات المتواترة التي تمت بينه وقيادات الوطني. وفي السياق نفسه رجح عضو المكتب القيادي للوطني عبد الجليل النذير الكاروري في حوار أجرته معه «المجهر السياسي» أنه لا يستبعد حدوث اتفاق بين الوطني والشعبي خارج مواعين الحزب أسفر عن فك حظر صحيفة الشعبي «رأي الشعب» وحضور الترابي لخطاب البشير، وأضاف قائلاً «الأقرب للحقيقة أن إبعاد الحرس القديم » أغرى الترابي بحضور الخطاب.
ويشير مصدر آخر بالشعبي إلى أن البشير التقى بالترابي إبان إعداد الحكومة لقرار رفع الدعم في سبتمبر الماضي، ولقاء آخر في رمضان الماضي. الجدير بالذكر أن معظم قيادات أحزاب تحالف المعارضة بما فيها الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي المعروف عنه تقاربه مع الوطني، عقد مؤتمراً صحفياً ساخناً جراء تساقط القتلى من المواطنين الذين تظاهروا في الخرطوم وعدد من الولايات، باستثناء الترابي الذي لاذ بصمت مريب، وأوكل الحزب مهمة التعبير عن رأيه المتواضع لقيادات أخرى. وبسؤالي للأمين السياسي للشعبي كمال عمر عن ذلك في أحد مؤتمرات حزبه، تجاوز السؤال ولم يرد عليه.
عوض فلسطيني عضو الهيئة القيادية بالمؤتمر الشعبي أعرب لـ«الإنتباهة» عن اعتقاده بأن المسألة ليست في لماذا حضر الترابي خطاب البشير، بقدر ما أن الظرف السياسي الذي تمر به البلاد الآن والتحولات التي تجري على مستوى الوطن العربي والقرن الإفريقي قد تكون من المسائل الأساسية التي حملت الشعبي كحزب على قبول الدعوة التي أتت من قبل البشير لاجتماع تفاكري، مهد لها الإعلام الداخلي وإعلام المؤتمر الوطني بأن الرئيس عازم على الإعلان عن عدد من الإصلاحات التي تخص البلد والشعبي طارح تنظيمياً وقبل فترة عدداً من الخيارات للتعامل مع النظام السياسي بالبلد أحدها أن يذهب النظام بانتفاضة شعبية، ونحن في الشعبي إذا كنا نبحث عن تغيير للنظام كنا على الأقل نهتم بتقليل الخسائر بالنسبة للشعب السوداني وللبلد بصفة عامة، وبالتالي لما جاءت دعوة الوطني والهدف منها هذه التحولات عبر مائدة مستديرة وإمكانية الوصول إلى مصالحة وطنية لا تستثني أحداً رأينا أنه لا بد من مشاركة الترابي ومؤسسات الحزب لتسمع ما الذي سيقوله البشير في هذا الخطاب، ومن هذا المنطلق فإن الحزب اتخذ قراره بذهاب الأمين العام للحزب وعدد من قادة الحزب لمعرفة ما يقدم الرئيس من برنامج في خطابه للخروج بالبلاد من هذا المأزق الوطني. فالهدف الأساسي لنا هو الوطن وليس الانتقام الشخصي. ونفي فلسطيني صحة الأنباء والآراء التي قالت إن الترابي لا يمكن الذهاب إلى مثل هذه الجلسة دون أن يكون له علم مسبق بما يدور حوله، ووصفها بالاستنتاج الخاطئ لأن الشعبي لم يتعامل مع الدعوة في إطار التكتيك، وإنما تعامل معها في إطار حسن نية في أنها يمكن أن تخلص البلاد من هذا المأزق، وبالتالي فإن لقاءات البشير والترابي لقاءات عابرة تمت في أتراح أو أفراح، ولكن ذلك لم يكن لقاءً للتفاكر حول الوطني والشعبي أو خلافه.
لقاء الترابي والبشير
حسين كرشوم القيادي بالوطني قال لـ «الإنتباهة» إن الترابي حضر لأنه كان يتوقع أن يشمل الخطاب بعض القرارات الكبيرة وبالتالي جاء ليكون شاهداً عليه. وأضاف أن مشاركة الترابي في الخطاب تمت في إطار اللقاءات الدائرة بين الوطني والشعبي عبر لجان كونت بين الحزبين للتواصل والحوار وعندما يتعثر عمل هذه اللجان ويصل الحوار لطريق مسدود وتبرز الحاجة للتدخل من الطرفين يلتقي البشير والترابي لدفع الحوار للأمام.
وسبب آخر ساقه حسين لتلاقي المؤتمرين هو انفجار ثورات الربيع العربي وظهور الإسلاميين في الحكم تعتبر إحدى المنصات التي شغلت الإسلاميين في الحوارات والنقاشات عن مستقبل الإسلام السياسي في مصر وتونس وليبيا، وكيفية تأمينه وتداعياته والأفق البعيد له كانت محل نقاش، لأن تلك الثورات جاءت دون توقع الناس علاوة على ذلك نجد أن الأحداث في مصر بعد ظهور السيسي أصبحت منصة أخرى للحوار والنقاش، وأيضاً منصة القضايا الاقتصادية وفصل الجنوب وملابسات زيارة نائب الأمين العام بالشعبي إبراهيم السنوسي ومناقشة تجارب الإسلام في الحكم والدروس المستفادة منها، كل تلك الأسباب مجتمعة أوجدت حالة من التقارب بين الإسلاميين.
احتمالات وحدة المؤتمرين
بما أن مسار التقارب بين الإسلاميين ماض في طريقه والحديث لحسين، أعتقد أن الوحدة ممكنة واحتمال التقارب وارد، وبسؤاله عن الثمن الذي سيقدمه الوطني للشعبي لقاء التقارب أفاد حسين أن الحوار في القضايا الكلية يوحد رؤى الناس وليس مهم من يكون في السلطة، فالتفاصل تأتي نتيجة للنقاش حول القضايا الكبرى، والدليل على ذلك مبدأ حضور الشعبي في القاعة وسماع خطاب البشير وهي تشير إلى رغبتهم لمواصلة الحوار لأقصى درجة ممكنة.
حول الخطاب
الرواية السينمائية التي راجت بكثافة بين الصحافيين أن خطاب البشير تم تبديله في اللحظات الأخيرة من إلقائه، وأن الترابي والمهدي وصلت لهما نسخة من الخطاب الأصلي، وأن الترابي الذي فوجئ بالخطاب البديل لم يكن من المستبعد أن يغادر القاعة، لولا أن رسالة مكتوبة وصلت إليه بأن أبناءه القدامى هم وراء هذه الدراما فظل مكانه، حتى أن بعض الصحافيين وصف ملازمة بعض زملائهم للترابي عقب الخطاب، كانت بقصد الحيلولة بينه والتصريح الذي قد يهدم مساعي التلاقي بين الحزبين، هذه الرواية على دراميتها لا تمنع من أخذها في الاعتبار هذا السؤال: لم تأخر الوطني في الإعلان عن وثيقته التي ظل يعمل عليها منذ يوليو العام الماضي؟
في هذا السياق أشار حسين الى أن الوطني بصدد إجراء تعديل كبير على الوثيقة، وقد تم تشكيل لجنة خاصة لمراجعتها. فالناس ما عادوا بحاجة للعموميات بل الحاجة لمصفوفة توضح متى يتم التغيير، وكيف وما هي نتائجه، ومحاولة إعداد مصفوفة أشبه ببرنامج التنفيذ. وفي ذات الاتجاه مضى مصدرآخر لفت النظر إلى تأخر الوثيقة وقال إن تأخيرها يعود الى أنها غير صالحة لتقديمها للقوى السياسية، وذهب الى أن احتمالات وجود تيار بالوطني معارض لتوجه الحزب للحوار مع القوى السياسية والحركات المسلحة وتنبأ بأن الوطني ربما يشهد موجة جديدة لإبعاد عدد من القيادات المعارضة للحوار.
على كل يبقى أن إحدى إشكالات الشعبي في تحالف المعارضة أن حلفاءه لم يأمنوا جانبه كونه هو الرائد في وجود النظام الذي يحاربونه معاً حقيقة يصعب تجازوها، فهل حان الوقت لتعود المياه إلى مجاريها بين المؤتمرين «الوطني والشعبي» على خلفية المخاطر التي تحدق بالبلاد وببقاء الإسلاميين في سدة الحكم عقب الانقلابات والقلاقل الضخمة التي يواجهها الإسلاميون في دول الربيع العربي؟
صحيفة الإنتباهة
ندى محمد أحمد
ع.ش