ملك اليمين 3
وقف بنا الحديث فى المقال السابق عند نقطة مهمة هى مدى سلامة نظام الجوارى.. وهل كان من السوء، بحيث حاول البعض تأويل الآيات الصادعة.. فضلاً عن الإجماع الذى لا شك فيه!.
وقلنا فى آخر المقال إن الحرام والحلال يتأثران بالزمان والمكان وغير ذلك من العوامل.
وقد كان نظام الجوارى فى وقته نظاماً مقبولاً، لأن البديل كان البغاء، ولم يكن عبثاً أننا لم نجد فى تاريخنا القديم أى إشارة لوجود بغاء معلن.. فى حين أن الحديث عن البغاء فى المجتمع الأوروبى يمكن أن يملأ كتباً، وقد لاحظ أحد كتاب عصر النهضة فى القرن الخامس عشر أن «من المظاهر الواضحة فى أخلاق أهل العصر عدم التقيد بالروابط الزوجية، فلم تكن تهمل الحقوق الزوجية فى عصر، كما أهملت فى عصر النهضة.. وليس معنى ذلك أن الناس انصرفوا عن حياة الأسرة نهائياً، بل احتفظوا بها كعنصر تقليدى فى حياة المجتمع، لكنهم إلى جانب ذلك أرادوا أن يعيشوا أحراراً يمتعون أنفسهم بالحياة إلى أكبر حد مستطاع، فوجد الحب الجنسى كما وجد الحب العاطفى، وربما اجتمعنا جنباً إلى جنب فى شخص واحد.. وأصبح من الأمور المألوفة أن يتطلع كلا الزوجين إلى حياة العشق والهوى بعد الزواج.. وكانت تحدث أحياناً فواجع ومآسٍ وقتل وغدر وانتقام عنيف». (كتاب سافونارولا – للأستاذ حسن عثمان – دار الكاتب المصرى، ص22).
وقال مؤلف قصة الحضارة عند حديثه عن عصر فولتير: «وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء.. وفى المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفى بنفقاتهن الضرورية.. وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً. وتحدث الشيخ رشيد رضا عن «تلك الطريقة الشرعية لوجود السبايا فى بلاد المسلمين، وهل يرتاب عاقل عادل فى أن الخير لهن إن وجدن أن يتسرى بهن المؤمنون فيكن فى الغالب أمهات أولاد شرعيين كسائر الأمهات الحرائر، فإن الجارية التى تلد لسيدها تعتق بموته إذ لا يصح ولا يجوز فى الشرع أن تكون مملوكة لولدها بمقتضى إرثه لوالده، وفى بعض الآثار أنه يحرم بيعها منذ ولادتها، لكن لا تجب لهم أحكام الزوجية المعروفة بيد أنها قد تكون أحظى عند الرجل بآدابها وقلة تكاليفها وعدم تحكمها كالزوجة التى تدل بحقوقها الشرعية والاعتزاز بأهلها».
ولا جدال أن الشيخ رشيد رضا محق فى مساءلته عندما كان بصدد الحديث عن الطريقة الشرعية لوجود السبايا فى بلاد المسلمين.. فقال: «وهل يرتاب عاقل فى أن الخير لهن.. إن وجدن أن يتسرى بهن المؤمنون فيكن فى الغالب أمهات أولاد شرعيين كسائر الأمهات الحرائر فإن الجارية التى تلد لسيدها تعتق بموته.. إذ لا يصح ولا يجوز فى الشرع أن تكون مملوكة لولدها بمقتضى إرثه لوالده، وفى بعض الآثار أنه يحرم بيعها منذ ولادتها، ولكن لا تجب لهن أحكام الزوجية المعروفة، بيد أنها قد تكون أحظى عند الرجل بآدابها وقلة تكاليفها وعدم تحكمها كالزوجة التى تدل بحقوقها الشرعية والاعتزاز بأهلها».
والحكمة العامة المقصودة من التسرى فى الإسلام هى حكمة الزوجية نفسها، وحق النساء فيها أن يكون لكل امرأة كافل من الرجال لإحصانها من الفحش، وجعلها أما تنتج وتربى نسلاً للإنسانية، إلا ما يشذ من ذلك بأحكام الضرورة، فليتأمل النساء والرجال من جميع الأمم والملل هذا الإصلاح الإسلامى والهدى المحمدى فى تكريم المرأة وحفظ شرفها حتى التى ابتليت بالرق، هل يجدون مثل هذا فى دين من الأديان أو قانون من القوانين؟. وهل يمكن أن يوجد فى بلد تقام به شريعة الإسلام مواخير للفجور واتجار بأعراض الجنس اللطيف الضعيف؟. أرأيت أيها المحيط خبرًا بتاريخ الأمويين فى الأندلس والعباسيين فى الشرق لو وجد الآن بلد فى الدنيا تعيش فيه السرارى كما كن يعشن فى بغداد وقرطبة وغرناطة ألا تهاجر إليه ألوف الأيامى والبنات من أوروبا ليكنَّ سـرارى عند أمثال أولئك المسلمين إن صح عندهم استرقاقهن؟.. فكيف لا يتمنين أن يكن أزواجاً لهم مع التعدد؟.. ألا يفضلن هذه العيشة على ما تعلمه من عيشة مواخير البغاء الجهرية والسرية ومن عيشة الأخدان المؤقتة السيئة العاقبة على الجسم بعد ذهاب الشرف وجميع مزايا البشر؟.. دع الاتجار بهن وسوقهن من قطر إلى آخر كقطعان الخنازير والغنم.
وأخيرًا فإن نظام الجوارى قدم خدمة كبيرة للمجتمع الإسلامى لم يخطر ببال أحد أن يتحدث عنها، تلك هى أن الجوارى قدمن «الغناء» ودفعنا به فى المجتمع الإسلامى، وتلك لعمرى هدية قيمة يستحققن عليها الثناء.
وقد كانت الفنون بصفة عامة من أكبر العوامل التى ساعدت المرأة على التقدم وتجاوز الإطار المفروض عليها فى المجتمع.الجوارى وحدهن كن المؤهلات ليحملن رسالة الغناء، فلم يكن فى المجتمع أناس يمكن أن يُعنون كلية بالغناء إلا الجوارى وتلحين الكلمات بصورة سيكولوجية جنسية عميقة، وعندما يصبح الغناء صناعة، على حد تعبير ابن خلدون، فإن الجوارى وحدهن هن اللائى كان يمكن أن يتعلمن هذه الصناعة.
قد يقول أحد إن المجتمع الأوروبى الذى لم يأخذ بنظام الجوارى لم يضطر إلى نظام البغاء كما زعمنا آنفاً، والرد أن صورة تصرف المجتمع الإسلامى اختلفت عن تصرف المجتمع الأوروبى، فالمجتمع الإسلامى تقبل وجود قناة للعلاقات الجنسية لا تعد زواجاً بالمعنى الدقيق، ولكنها أيضاً ليست زنى، فهى علاقة مشروعة ويمكن فى أى وقت أن تتغير صفة العلاقة إلى زواج شرعى عندما يتزوج الرجل جاريته.
أما المجتمع الأوروبى فإنه أخذ بنوع من البغاء على الشيوع، وهو معلن وسرى، لأنه سلم بحق العشق، باعتباره صورة من صور الإرادة الشخصية، لأنه معروف للخاصة، وسرى لأنه لا أحد يشير إليه، وهو يقوم على أساس حق العشق الذى لا يمكن تكبيله وحقه فى أن يكون لكل رجل خليلة، وحق كل امرأة أن يكون لها عشيق، وهذه العلاقة ليست زواجًا ولكن المجتمع تقبلها دون غضاضة، والنتيجة النهائية هى شيوع العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج بالصورة التى تتجاوب مع إرادات الأفراد مع عدم احتمال تغيرها إلى زواج «كما فى حالة الجوارى»، لأن العشق لا يمارس إلا فى الدول التى لا تسمح إلا بزوجة واحدة.
كانت تلك مقالات للمفكر الإسلامي / الدكتور / جمال البنّا
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]