فهم جديد للإسلام 2
إن قولنا إن أساس الإسلام هو القرآن لا يحل القضية تماماً، لأن هذا سيقدم لنا سؤالاً هو: كيف يمكن أن نفهم القرآن؟
مما يلفت النظر فى هذه النقطة أن الرسول لم يفسر القرآن، وقيل إن ما قدمه من تفسير لا يجاوز بضع عشرة آية، كما أن الصحابة خلال صحبتهم الطويلة له لم يسألوا إلا فى حالات معدودة، أشار إليها القرآن «يَسْأَلُونَكَ» ويرد «قُلْ»، ودلالة هذا أن الرسول نفسه كان ينتظر الوحى ليدله على التفسير. إن عدم تساؤل الصحابة، وعدم تفسير الرسول يدلان على أن القرآن ليس فى حاجة إلى تفسير.
* القرآن ليس بحاجة إلى تفسير:
إن عدم حاجة القرآن إلى تفسير يعود إلى أن القرآن نزل بلغة عربية محكمة، وأنه رغم البلاغة والإعجاز، فإن الله – تعالى – يسره للذكر، كمال قال: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»
وقال عن القرآن: «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ» (آل عمران:78)، أما المؤمنون فيقولون هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
القرآن يهدى بالانطباع:
وإنما وقف القرآن هذا الموقف لأنه يهدى بالانطباع، أى بمجرد سماعه أو قراءته، فصياغة القرآن صياغة ربانية توفر لها ما يعجز البشر عنه، ففيه التصوير الفنى وفيه النظم الموسيقى، وفيه معالجة النفس الإنسانية، والنظم الموسيقى وحده يمكن أن يجعل للقرآن من الأثر ما تحدثه سيمفونية رائعة من سيمفونيات بتهوفن دون حاجة إلى تفسير، وقد كانت وسيلة الهداية الأولى إلى الإسلام هى أن يتلو الرسول القرآن، فيتزلزل الشرك فى نفوس العرب أو يتقبلوا الإسلام.
بعد تقبل الآذان.. تتفتح العقول:
إذا كان القرآن أعظم كتاب فن عرفته بالعربية، وإنه بحكم هذا الإعجاز الفنى والنظم الموسيقى سلك طريقه عبر الآذان التى تفتحت له، فإن القيم التى جاء بها من خير ومساواة ومعرفة وعدل وحرية تسلك طريقها إلى العقول فتتحقق الهداية، فليس التأثير النفسى إلا مقدمة لإعمال العقل وإثارة الفكر فى القيم العظمى التى جاء بها والتى تعد هى جوهر الإسلام والتى تكفل السلام والتقدم للمجتمع.
القرآن يفسر بعضه بعضًا:
مما يسهل فهم القرآن، ولا يجعل هذا الفهم محتاجًا لأمر آخر خلاف القرآن، أن القرآن يفسر بعضه بعضًا وما يجمله فى موضع، يفصله فى موضع آخر، وقد يعطى الكلمة معنى، ثم يضيف إليها معنى آخر… إلخ، وكل هذا حتى لا يحتاج المسلم إلى ترجمان للقرآن، لأن الإسلام لا يعترف برجال دين ولا يريد وصاية من رجال دين على المسلمين.
فإذا أردنا فهم القرآن فلنقرأ القرآن وستتبين لنا معانيه شيئاً فشيئاً.
آيات معدودة تؤدى للهداية:
مما يسهل علينا فهم القرآن، أن القرآن يودع حكمته وسره فى آيات قليلة وفى سور قصيرة، إن القرآن يشبه ثوباً طويلاً مطوياً، ليس من الضرورى أن يفرد الثوب كله حتى تعرفه، إننا يمكن أن نعرفه من لمس نصف متر أو أقل ويكفى هذا لمعرفة طبيعة نسجه وغزله ومادته… إلخ، وهكذا فإن القرآن يودع بعض جواهره فى سور قصيرة، مثل سورة العصر «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»، فالجملة الأخيرة تمثل الصراط المستقيم الذى أراده القرآن، أو سورة الإخلاص «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، ومثل هذا كثير، ومنها يمكن أن نفهم إحدى روائع القرآن دون حاجة إلى قراءة القرآن كله.
نرفض التفاسير من الطبرى حتى سيد قطب:
رأينا من الكلمات السابقة أن القرآن قد عُنى بأن يكون مفهوماً مؤثراً بحكم ما أدوع فيه من تصوير فنى ونظم موسيقى ومعالجة للنفس الإنسانية حتى لا يلتجئ إلى مفسرين، لأنه إذا كان الرسول لم يفسر القرآن فمن أين سيأتى المفسرون بشروحهم؟ هل يفرضون مهمتهم وألفاظهم على النص المقدس؟ ومن أين سيأتون بكلامهم؟ إنهم سينقلون عن الكتب الأخرى التى كانت شائعة، وأبرزها كتب بنى إسرائيل المحشوة بالخرافات، فهل هناك جناية مثل هذه وتلويث لفهم الإسلام مثل هذا؟
علوم القرآن:
توصل المفسرون إلى ما أطلقوا عليه علوم القرآن التى ضمت خمسين علماً، من أبرزها الناسخ والمنسوخ، وكذلك أسباب النزول، وكان القدامى يقولون «جهلت الناسخ والمنسوخ ضللت وأضللت»، وادعوا وجود خمسمائة آية ناسخة فى القرآن منها آية أطلقوا عليها آية السيف التى تقول «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» نسخت مائة آية من آيات السماح والصفح والسلام، وأظهر الكتاب العصريون فساد دعوى النسخ أصلاً، وأنه لا يعقل أن توجد آية قرآنية تتلى، ويقال إنها منسوخة.
أسباب النزول:
من أبرز علوم القرآن أسباب النزول، فقد ادعوا أن هذه الآية أنزلت لحكاية وهذه الآية لقضية… إلخ، من أين جاءوا؟ إذا كان القرآن نفسه لم يذكر سبباً محدداً، لقد أعملوا أحاديث موضوعه وروايات مأفوكة، وفرضوها على النص، وكان يجب أن يفهموا أن القرآن لم يذكر السبب لأنه لا يعرض قضية أو حكاية، ولكن يضع مبدأً وقد اعترفوا هم أنفسهم فقالوا «العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب» ولكن بعد أن أثبتوا أسبابًا مضحكة، أو تثير السخرية مثل أسباب نزول الآية 9 من سورة الحجرات «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، فهذه الآية التى قلنا إنها تقيم محكمة عدل إسلامية، قالوا السبب فى نزولها بول حمار.
هل القرآن فيه كل شىء؟
جاء فى سورة النحل «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْءٍ»، وقد فهم البعض أن القرآن فيه كل شىء، وسألنى أحدهم أليس القرآن فيه كل شىء؟ فتذكرت نكتة تروى عن الشيخ محمد عبده عندما كان يفسر هذه الآية وكان بين الجالسين مدير شركة كوك للسياحة والنقل، وكانت وقتئذ أكبر شركاتها، فسأل الشيخ محمد عبده هل فى القرآن كلمة «كوك»؟ فأجاب أجل، وقرأ عليه آية من سورة الجمعة «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ»، وبالطبع فإن الشيخ لم يقصد ذلك حتى وإن كان قد أجاب بما يحقق ما أراده مدير شركة كوك.
القرآن فيه كل شىء.. كيف؟
عندما سألونى هل القرآن فيه كل شىء؟ قلت لهم إن القرآن فيه كل شىء، ولكن ليس بالصورة التى تظنونها، فالقرآن ليس «أنسكلبيديا» فيه كل شىء مرتب أبجدياً، ولكن القرآن فيه كل شىء لأنه أحال على العقل، ودعا لإعمال الفكر واعتمد «الحكمة» مرجعاً كالكتاب، ولا شىء يمكن أن يخرج عن إطار ذلك، ومن هنا يمكن أن نقول إن فيه كل شىء، بل وبطريقة تؤدى إلى تفهم وتعرف كل شىء، فليس الأمر أمر ذكر أو وجود، ولكنه أمر دعوة واستحثاث.
إذا كان المسلم لا يستطيع أن يلقى الله دون أن يسأل الفقيه فى كل صغيرة وكبيرة، ولن يقنع بما وصفنا له هنا، فأنا أذكره بقول الرسول عمن استفتاه «استفتِ قلبك.. ولو أفتوك وأفتوك»، ويقول الله تعالى «بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ».
فهل بعد قول الله تعالى والرسول قول؟!
تتمة مقال المفكر الإسلامي ، الدكتور / جمال البنّا
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]
>>>>>> النظم الموسيقى وحده يمكن أن يجعل للقرآن من الأثر ما تحدثه سيمفونية رائعة من سيمفونيات بتهوفن دون حاجة إلى تفسير