لكن كيف جرت الوقائع إبان إعلان المفاصلة الشهيرة؟
وقائع الأحداث فاجأ رئيس الجمهورية الفريق آنذاك عمر البشير بإعلان حالة الطوارئ في البلاد وتعليق الدستور وإنهاء أجل المجلس الوطني «البرلمان». وقال في مؤتمر صحفي عقد بعد يوم واحد من إعلان القرارات إن القرارات جاءت لإعادة هيبة الدولة التي أضعفتها الهيئة القيادية للمؤتمر الوطني. وأشار إلى أنه ضد النظام الأساس للمؤتمر الوطني لأنه يضع السلطة في يد الهيئة القيادية متناسين أن هناك حكومة ورئيساً وقال إنه ليس لديه خلاف مع قواعد المؤتمر الوطني بل مع المؤسسات الفوقية التي جاءت بطرق يعلمها الجميع. وقال إن الأمر بلغ في الأيام الماضية مرحلة خطيرة لدرجة أن تقوم الهيئة القيادية بتكوين لجنة محاسبة له شخصياً بحجة الغياب من الاجتماعات. وقال إن هناك استهدافاً واضحاً لهز سلطة الدولة وإسقاطها وأن ذلك انعكس في العصيان والرفض لتوجيهاته وقراراته التي يصدرها بشأن دفع مرتبات المعلمين وإزالة نقاط التحصيل عبر الولايات من قبل بعض الولاة، وكذلك رفض المجلس الوطني لطلباته وخطاباته. وقال إنه لا يمكن لبلد مثل السودان أن يدار برئيسين. وأشار إلى أن الترابي أعلن صراحة لطلبه ورفضه مناقشة التعديلات الدستورية بالمجلس الوطني الذي يجعل الرئيس منسقاً بين الجهازين التنفيذي والتشريعي. وخلص إلى أن الوضع بات يماثل الوضع قبل الثلاثين من يونيو وكان لا بد من أن يفي بالبيعة التي تلقاها من الشعب.
ما ذا قال الترابي ؟ وعلى إثر إصدار قرارات الرئيس عقد د. حسن الترابي رئيس المجلس الوطني والأمين العام للمؤتمر الوطني مؤتمراً صحفياً في مقر المؤتمر الوطني بالخرطوم وصف فيه قرارات الرئيس التي أعلن فيها إعلان الطوارئ وحل المجلس الوطني بأنه انقلاب وخرق لقانون الحكم الاتحادي وغدر بالمؤسسة السياسية. وقال «إن الرئيس ابتدع له سلطة أن يخلع الولاة ويعينهم وهم ولاة منتخبون من الشعب حتى هذه اللحظة، وهذا يعني أن الحريات ستضيع لأن حالة الطورائ حالة اعتقالات ومصادرات، والطوارئ بحسب الدستور لا تجاز إلا بموافقة المجلس الوطني الذي أصبح ضحية لها الآن»، ونفى أن يكون قد أبلغ بالقرارات، وقال إن وزراء جاءوا إلى منزله من بيت الرئيس وقالوا لي إن الرئيس سيذيع بياناً مهماً بعد قليل، وقال «سنلجأ للمحكمة الدستورية والطعون، ولكنكم تعلمون أن هذه الطعون لا تجدي كثيراً في ظل هذا الوضع» كما وصف الحدث بأنه حرب ضد الإسلام، وفي يوم الخامس من رمضان توجه د. الترابي إلى المجلس الوطني بيد أنه منع من الدخول، بينما عقد مجلس الوزراء في ذات اليوم جلسة إيد فيها قرارات الرئيس، وقد أثار القرار رود فعل كبيرة حتى في الخارج واهتمت به كل الوسائط الإعلامية هناك وتلقى الرئيس البشير اتصالات من عدد كبير من الرؤساء العرب بغرض الإطمئنان على أوضاع البلاد لكنها تستبطن التأييد لقرارات الرابع من رمضان، أما على صعيد الوسائط الداخلية فقد اتجهت لتأييد القرارات، بيد أن الأستاذ حسين خوجلي رئيس تحرير صحيفة «ألوان» كان هو الوحيد الذي تحفظ عليها وكتب بعد يومين فقط من صدروها «إن كل المراقبين يعتبرون أن الذي حدث نكسة مشهودة في تاريخ المسلمين وفي كل أنحاء العالم، وأنها نكسة تضاف لأحزان الفتنة الكبرى ومقتل الحسين وسقوط الأندلس».
إسحاق فضل الله ونظرية السيناريو المصنوع وصف الكاتب المعروف إسحاق أحمد فضل الله في مقال أشرنا إليه في مقدمة المقال بصحيفة «الإنتباهة» أن مفاصلة الإسلاميين في الرابع من رمضان في عام 1999 مخطط مخادع. وقال «الخطر على السودان والإنقاذ ..كان يقترب باندفاع عنيف ولتفادي الخطر كان الثلاثة البشير وعلي عثمان والترابي يصنعون مخطط انشقاق الإسلاميين» «شعبي ووطني» والمخطط يوضع بمنطق أنه إن عرف الناس ان الانشقاق مخطط مخادع عرفت المخابرات العالمية أن الانشقاق مخطط مخادع.. وهكذا كان الانشقاق يصمم بحيث يخدع العالم كله وحتى اليوم يؤمن كثير من الناس والإسلاميون معهم أن انشقاق الإسلاميين حقيقي.. والانشقاق المصنوع كان مرحلة تنتهي في التاسعة من مساء الثلاثاء الماضية والترابي يجلس بين الصادق وغازي للاستماع إلى خطاب الرئيس» ثم يقول في فقرة أخرى «مرحلة تصميم الانشقاق بحيث يبدو شيئاً ينبت من جذور حقيقية صادقة، والشعبي يصبح «مانعة صواعق» فوق رأس الوطني ويقود المعارضة في الصحراء الواسعة» ثم يقول «لكن اللعبة تنتهي صبيحة انقلاب السيسي.. الانقلاب الذي يجعل المخابرات العالمية تطل من نافذة السودان. ويقول أيضاً «وفي المسرح.. المسرحية الجيدة تجعل المشاهد يتوتر للخطر ويغضب للخيانة.. ثم البطل والخير كلاهما ينتصر.. والمشاهد يتنهد في راحة».
هذي خلاصة ما ذهب إليه الأستاذ إساحق فضل الله بحسب النص المنشور، لكن قد يتساءل الكثير من المراقبين: هل ما كتبه الكاتب هو محض استقراء كتب بمداد الخيال باعتبار أن الكاتب هو في الأصل كاتب قصة، أم أن مصدره تسريبات من جهة رسمية إذ أن المعروف أن للكاتب مصادر نافذة يمتلك منها ربما شيئاً من الخطوط العامة أو ربما التفاصيل كلها ليحولها وفق حيثياتها إلى نقاط عريضة وأحياناً رموز وفق نظرية «تمليك قدر الحاجة فقط» سيما فالكاتب من الذين يتحمسون للإنقاذ، وقد قلت في مقال سابق «إن إسحاق بذلك الحماس والانغماس المحرابي في تلك الحضرة السياسية كان ينظر لكل عطاء وإسقاطات الأفعال السياسية للإنقاذ بتلك الرؤية منافحاً عنها بشراسة فإذا كانت للمؤتمر الوطني أفعال لاقت نقداً في تقديراتها لكن إسحاق من داخل محرابه يعتبر أن لتلك الخطوة مآلات غير منظورة للناظرين، فهو يخلص بأن المؤتمر الوطني فعل ذلك وهو يبتسم لما وراء الظاهر مع أنه تحسر لها حقاً أكثر من مرة لما سماه بغياب مركز الدراسات وحين تحدثت الأنباء عن كلاب مسعورة وثقت لها الصحف بالصور إلا أن أسحاق سارع باستلاف خيال الكاتب وحماس الاستغراق العشقي حين قال: «ثم حديث عن الكلاب المسعورة.. والشرطة تكشف أن الأمر مدبر. قبلها كان تسريب صغير لم ينتبه إليه أحد يحدث عن آبار جديدة شمال كوستي.. و.. و..». والكاتب يقصد هنا آبار جديدة للنفط، إذن فهو ينتقل هنا من خانة النفي إلى دنيا الأمل وتكريس التفاؤل مستخدماً نظارته الخضراء المعتادة مستهلماً قناعاته التي لا تهتز، لكن مع ذلك فإذا كان إسحاق يكتب السياسة من باب الأدب ويستبطن رقة الشاعر وقلب طفل لكنه أيضاً كثيراً ما يمتشق سيفا ونبالا لا يتوانى أن يطلق منها وابلاً من منصاته المتحركة تماماً كصواريخ الكايوتشا لا أحد يعرف من أين تأتي وفي أي الأماكن تقع،ــ وقصدنا من هذه الفذلكة أن نربط بين شخصية الكاتب وما سطره بالأمس من حديث مثير ومفاجئ.
احتمالات السيناريو
لا شك أن الذين اعتبروا أن قرارات الرابع من رمضان هي محض سيناريو حبكته الإنقاذ لتفادي الأخطار الخارجية وكسب الشارع السياسي بالداخل باعتبار أن الخروج من عباءة الترابي وما عرف عن تأثيره الكاريزمي داخل النظام هو دخول بالمقابل عبر بوابة الوطن الكبير حيث أن الترابي ارتبط بالحركة الإسلامية في حين أن قرارات رمضان تحدثت عن هيبة الدولة والتي بالضرورة ينبغي أن تتمايز على التنظيم الإسلامي وإن اهتدت واستأنست بهديه، كذلك فإن المتشككين يستندون إلى حديث د. الترابي الذي كشف فيه سيناريو الإنقاذ الأول حينما قال «قلت للرئيس البشير اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً»، فهم يرون أن للإنقاذ إرثاً في صناعة السيناريوهات التي ابتدروها عند الانقلاب بغرض اكساب استقلالية الحركة الجديدة، ولهذا من غير المستبعد أن يلجأوا مرة أخرى لهذه الآلية سيما فهم واجهوا صدوداً دولياً كبيراً مما أثر على الحراك الاقتصادي والسياسي للدولة.
معارضو السيناريو
أما معارضو سيناريو صناعة المفاصلة بين الإسلاميين باعتبارها مجرد تمثيلية فهم يستندون إلى مآلات المفاصلة على أتباع الشيخ الترابي وحزبه المؤتمر الشعبي، وما ترتب عليها من تضييق واعتقالات طالت أكثر من مرة حتى الشيخ الترابي وبفترات طويلة لبعض الكوادر إضافة إلى حرب لفظية بين الفرقاء واتهامات الحكومة للشعبي بالتآمر لقلب نظام الحكم حتى أنها قبل عدة سنوات قالت إن أجهزتها عثرت على أسلحة مخبأة في أحد المنازل فضلاً على اتهام الحكومة ورموزها للشعبي بتأجيج أزمة دارفور والوقوف مع حركة العدل والمساواة التي استطاعت في العام 2008م من دخول مدينة أم درمان، وكان الثمن باهظاً أنهاراً من الدماء، ولهذا فهم يرون أن كل هذه الإسقاطات القوية والعنيفة للمفاصلة لا يمكن أن تكون مجرد قربان لتأكيد مصداقية المفاصلة كحقيقة وليست مجرد سيناريو مصنوع.
أين الحقيقة؟
وبالطبع فإن حجة الرافضين لحياكة المفاصلة تبدو أقرب للواقع وفق المعطيات المنطقية من إسقاطات الثمن المدفوع، لكنها مع ذلك لا يمكن اعتبارها حجة لا يشوبها النفي بالنظر إلى ميل الإسلاميين في السلطة إلى التكتيكات والاتكاء على ما يعرف بفقه الضرورة وهو فقه مطاط استوعب الكثير من المطبات والأزمات والمواقف السلطوية وكانت للإسقاطات السلبية على صعيد الحرب أو السلام بما فيها المعاملة الربوية للدولة فيما يختص بالقروض ذات الفوائد.
أخيراً: ما رأيك أنت أيها القارئ العزيز؟ لكن إذا صحت نظرية الكاتب إسحاق أو التسريبات إن جاز لنا أن نسميها فقد يقول حاج حمد «يا ناس الإنقاذ شكيتم على الله عملتونا كمبارس أربعاً وعشرين سنة» .
صحيفة الإنتباهة
ع.ش