وضع الإنقلاب الذي حدث في مصر حكومة السودان في مأزق صعب يذكِّر بأيام مبارك بعد النقلة الكبيرة التي شهدتها علاقات البلدين في عهد مرسي خاصةً بعد زيارته للسودان و ما صاحبها من إتفاقات تنقل العلاقات إلى مرحلة جديدة من التعاون الوثيق ، و قد تمكنت الحكومة بعد مواءمات و مساومات و دروس كثيرة من رسم ملامح علاقة مع نظام حسني مبارك رغم التباعد السياسي بين النظامين ، فالواقع كان يفرض ذلك خاصةً و أن نظام مبارك كان في بعض النواحي أكثر عقلانيةً من نظام السيسي ، و بالذات في علاقته مع بقية القوى السياسية المصرية المعارضة التي كان يتيح لها هامش للحركة ، و لا شك أن جماعة الإخوان كانت تتفهم دواعي التعامل السوداني مع نظام مبارك . فهل ستتعجل الخرطوم المسير في ذات الدرب القديم لترميم علاقتها الفاترة مع نظام السيسي ؟ أم أن وثيقة الإصلاح الموعودة تحوي تغييرات في السياسة الخارجية بما يمكن السودان من إدارة علاقاته الخارجية بطريقة جديدة توائم بين المصالح و الأيديولوجيا بما يعظم الأولى و يقلل من تأثير الثانية ؟ خاصةً في ظل علم النظام بأن المعادلة الدقيقة التي حكمت علاقته مع نظام مبارك و حلفاءه في الخليج لم تعد تكفي في مرحلة ما بعد الربيع العربي والذي تقود مصر السيسي و داعميها في الخليج جهود ضخمة لتحويل مساره و تدارك مآلاته و توجيهها لتكون نكسة و ضربة قاصمة لتيارات الإسلام السياسي .
أجابت حركة النهضة في تونس في رأيي إجابة نموذجية على هذه الأسئلة ، فقد كان إنفتاحها على الآخر الداخلي كبيراً بما جنبها و جنب تونس مصير الثورة المصرية التي إنتهت إلى عودة النظام القديم للإنتقام و بوحشية تفوق بمراحل ما كان يفعله نظام مبارك . و لكن حركة النهضة المنفتحة جداً في علاقاتها مع الآخر الداخلي لدرجة تنازلها عن حكم نالته بالإنتخاب لم تفعل ذلك في علاقتها مع إنقلاب مصر ، فقد عبرت و هي في الحكم عن رفضها القاطع لإنقلاب السيسي ، و ربما ساعدها على ذلك عدم قدرة نظام السيسي و داعميه الخليجيين على إيذاء تونس ، سوى تلك المحاولات التي تمكنت حركة النهضة من قطع الطريق عليها بثمن يقل كثيراً عما دفعته الثورة المصرية و الإخوان المسلمين و حلفاءهم في مصر .
ستضطر حكومة السودان للتعامل مع نظام السيسي كأمر واقع ، و المتوقع و البديهي أن يبقى التعامل في حدوده الدنيا التي عبر عنها البشير بأنها في مرحلة “شعرة معاوية” ، و لكن جريدة “اليوم السابع” المصرية نشرت تصريحات للسيد البدوي رئيس حزب الوفد تفيد بأنه إلتقى و تواصل مع مسؤولين سودانيين رفيعي المستوى عبروا له عن دعمهم لخارطة طريق السيسي ! و هو ما لم يتبرع مسؤول سوداني بنفيه أو تأكيده حتى الآن !! علماً بأن بعض الأحزاب المشاركة في الحكم في السودان تقف مع إنقلاب السيسي علناً ، فهل تحاول الحكومة السودانية أن تستفيد من هذه الأحزاب لإجادة حبكة الغموض التي تلف موقفها من الأوضاع في مصر ؟ لأنه من الواضح أن التذرع بأن الموقف الرسمي هو عدم التعليق على ما حدث في مصر بحجة أنه شأن داخلي لم يرضي جميع الأطراف ، فلا حكومة مصر و إعلامها توقف عن إتهام حكومة السودان بدعم المعارضة و لا أنصار الحكومة من الإسلاميين السودانيين يرضيهم مثل هذا الموقف . و مخابرات السيسي تعلم بالتأكيد دور السودان في دعم ثورة 25 يناير و دعمها و حماسها لحكم مرسي ، فبينما يُحاول إعلام السيسي تصوير مرسي كبائع لحلايب كانت الحقيقة هي أن السودان وضع ملايين الأفدنة تحت تصرف مرسي بما يفوق مساحة حلايب بكثير و هم يعلمون بأنه لم يطرأ جديد في عهد مرسي في ملف حلايب يتجاوز دعوات الحل السلمي التوافقي الذي ظل مطروحاً منذ عهد مبارك و المجلس العسكري . فتوجس نظام السيسي من حكومة السودان ليس مرتبطاً فقط بمخاوف من دعم ربما يقدمه السودان لمعارضيه ، بل بالدعم الحقيقي الذي قدمه سابقاً مما كان يتعارض مع جهوده للإستيلاء على الحكم .
ستدفع حكومة السودان الكثير من مصداقيتها و تخسر رصيدها الإسلامي إن سعت إلى إرضاء السيسي و داعميه الخليجيين على حساب حلفاءها الإسلاميين و بالتأكيد لن تكسب السيسي و داعميه حتى لو تمكنت من كف شرهم إلى حين . و بالتأكيد ستظل حكومة السودان متهمة بدعم معارضة السيسي و سيتم إبتزازها إذا شعر السيسي و داعميه بأنها مرعوبة من مصير الإخوان في مصر و مستعجلة لدفع الثمن الذي يطلبه هؤلاء . و بالتأكيد سيغلون الثمن و ستجد حكومة السودان نفسها كالمنبت الذي لا أرضاً قطع و لا ظهراً أبقى .
الحكمة تقتضي من حكومة السودان السعي للبحث عن صيغةٍ ما تكف شر السيسي و داعميه عن السودان و تسعى في ذات الوقت للوساطة لرفع الظلم عن التيارات الإسلامية في مصر ، و للوصول إلى حل ترضى به جميع الأطراف . و لا أظن أن أي تعامل و دعم لشئ غير جهود الوساطة في مصر سيكون تصرفاً حكيماً .من الواضح أن نظام السيسي في غاية الضعف و لن يستمر إلا ببقاء دباباته في الشوارع فلا يجب التأسيسي لأي علاقة قوية معه ، إلا الحد الأدنى الذي يفرضه الأمر الواقع . و قريباً ربما يضطر السيسي للتراجع و قبول جهود الوساطة التي ربما تفضي إلى فترة إنتقالية جديدة تُخلى فيها السجون و يُسمع فيها لصوت الشارع ، هذا إن لم يصل بعض قادة الجيش المصري إلى قناعة بأن السيسي يقود مصر نحو الخراب و أنه يستحيل عليه أن يعيد النظام القديم إلا على أنقاض مصر ، فيقوموا بعزله و التأسيس لفترة إنتقالية يُحترم فيها الجميع و يُترك للصناديق الحرة أن تختار من يحكم ، و لا شك أن فرقاء السياسة في مصر سيكونوا قد تعلموا الكثير الذي يجنبهم أخطاء الماضي و مؤامراته ، و حينها ستكون كثير من العقبات قد أُزيلت من طريق العلاقات السودانية المصرية .