قبل شهور تم انتخاب الدكتور “إبراهيم أحمد محمد الصادق الكاروري” أميناً عاماً لهيئة علماء السودان، وهو يعمل عميداً لكلية الشريعة والقانون بجامعة أم درمان الإسلامية وإمام مسجد أم درمان الكبير.. التقيناه في مكتبه بالخرطوم.. وحينما هممنا بأن نضع أمامه كثيراً من الأسئلة الساخنة والمواجهات المحتملة.. خشينا من أن نجد رجلاً متزمتاً متشبثاً بمواقفه.. ولكن عند إدارة جهاز التسجيل ومناقشة المحاور وجدناه رجلاً حاضر البديهة منفتحاً بطلاقة على المجتمع السوداني، يستمع ويقرأ لـ”نزار قباني” و”أبو الطيب المتنبي” و”حميد”.. فإلى مضابط ما خرجنا به في حوارنا مع الأمين العام لهيئة علماء السودان “إبراهيم الكاروري”..
} ما هي الوظيفة الرئيسية لهيئة علماء السودان؟
هي هيئة شعبية غير تابعة للدولة، اجتمع العلماء ورأوا ضرورة وجود جسم يجمعهم ولا نقصد هنا علماء الشريعة الإسلامية أو اللغة العربية وإنما كل أنواع العلوم بما فيها المهندس والطبيب والمتخصص فى الزراعة والصناعة والشريعة واللغة العربية والعقيدة وهي شاملة لكل العلماء.. تجد فيها الصحفي والإذاعي.. بمعنى كل أنواع الطيف من العلماء يوجدون في الهيئة.. الوظيفة الأساسية هي النظر في القضايا التي تهم الأمة وإبداء الرأي الشرعي بالتداول.. وعندنا الفتاوى جزء من نشاط الهيئة والفتاوى العامة مهمة (مجمع الفقه الإسلامي).. على سبيل المثال أحياناً تجد البنوك لديها مجالس للإفتاء.. ونحن نتكامل مع كل هذه المؤسسات وتبقى لدينا خصوصيتنا بإعتبارنا منظمة شعبية غير خاضعة لأية جهة رسمية.
} ولماذا يغلب عليها الطابع الديني فقط؟
لا يغلب عليها الطابع الشرعي، ولكن دائماً يتبادر للإعلام أن هيئة علماء السودان هم علماء الشريعة، والنقطة الثانية غالباً الفتاوى ترد من هذا المدخل سواء أكان على مستوى الفتوى الشخصية أو الفتوى العامة، ولذلك الانطباع السائد في أذهان الناس أن الهيئة متخصصة فقط في العلوم الشرعية، وقد يكون غالب الأسئلة التي ترد إلينا متخصصة في هذا الجانب، ولكن الرؤية رؤية عامة حتى في الجانب الهندسي والطبي والصحفي.
} ولكنكم أنتم من ساهمتم في هذا الفهم لأنكم حصرتم أنفسكم في الجانب الديني وفي مناسبات معينة فقط؟
هذا سؤال جميل جداً.. قد يكون الأمر كذلك.. ربما خرجت بعض الفتاوى لفتت النظر إليها.. وقد يكون لدي رأي في فتوى ما لسبب ما أو آخر والناس صوبوا على هذه الفتوى وتشكلت صورة ذهنية في أن الهيئة مهتمة فقط بمثل هذه القضايا.
} هناك تضارب للفتاوى داخل الهيئة.. ليست لديكم آلية لضبط خروج الفتاوى من داخل الهيئة؟
أحياناً قد تخرج الفتوى من عالم من علماء الهيئة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون فتوى الهيئة.. العلماء كلهم منضمون لجهات معينة في الجامعة وفي الحي وفي المسجد وقد يكون تم سؤاله وأفتى.. وقد تكون هذه القضية محتاجة إلى معالجة ومراجعة ونحن الآن لدينا سمنار وجلسة علمية لجمع كل جهات الفتوى في الجامعات و(مجمع الفقه الإسلامي) والبنوك حتى نرى كيفية معالجة تضارب الفتاوى لكي لا يحدث اضطراب في المجتمع وهذا السؤال مطروح الآن.
} هناك اتهامات للهيئة بأن أطلق عليكم علماء السلطان.. وأنكم تحاولون تجميل ومسايرة الحكومة في كثير من القضايا وايجاد المخارج الدينية لها؟
نحن هيئة شعبية غير تابعة لأية وزارة أو جهة حكومية، والأمر الثاني نحن لسنا حزباً تابعاً للحكومة ولسنا معارضين لها وعشان كده الناس المؤيدين الحكومة يجب أن لا يطالبوننا بتأييدها في كل شيئ.. والمعارضون يجب أن لا يتوقعوا مننا معارضتها في كل شيئ.. كل من هؤلاء يبحث عن المكسب السياسي ونحن نبحث عن مكسب الأمة في طاعة الله سبحانه وتعالى وتوخي الحذر في كل شيئ لأنه إذا أصبحنا علماء سلطان، فإن الأمة لن تستمع لنا.. ونحن ليست لدينا مصلحة في تجميل وجه السلطان.. وليست لدينا مصلحة في معارضته.. عشان كده نحن نفتكر أننا أمام السلطان إذا عربة السلطان متحركة نحن بمثابة الضوء لها وللأمة وللسلطان.
} ولكنكم صمتم حيال كثير من القضايا الشرعية المهمة جداً خوفاً من الحكومة؟
أعطني مثالاً.
} مثل قضية القرض الربوي الأخير..؟
قضية القرض الربوي دي قضية نظر فيها (مجمع الفقه الإسلامي).. وهناك مجموعة من الآراء عند العلماء.. (مجمع الفقه الإسلامي) أحضر مجموعة من العلماء من خارج السودان وأخرج هذه الفتوى.. وبهذه الفتوى إذا رجع الحاكم أو الوزير لـ(مجمع الفقه الإسلامي) وأخذ الفتوى ربطت هذه الفتوى بالضرورة.
} هل الضرورات تبيح محظورات الدين وتجيز ما لا يمكن إجازته؟
هذه قاعدة حتى في الدين.. ولكن الضرورة تقدر بقدرها.
} هل تقر عملية القرض الربوي؟
دي من الإشكالات التي تحتاج إلى تدقيق.. أنا لا أقر القرض الربوي والشريعة الإسلامية لا تقره أيضاً.. لكن السؤال في تقدير الضرورة.. عندما أتي إلى تقدير الضرورة أي شخص قد يكون عنده تقدير للضرورة.. بمعنى قد تكون توفرت المعلومات التي نظر من خلالها (مجمع الفقه الإسلامي) ورأى الضوابط وقال إن الضرورة الشرعية هنا اقتضت الربا.. نحن لم نجتمع في الهيئة ونظرنا في الحيثيات لأننا اعتبرنا أن ما قام به (مجمع الفقه الإسلامي) يكفي وهذا يُسأل منه (مجمع الفقه الإسلامي) في الحيثيات.. وهل الضرورة قدرت بقدرها و(مجمع الفقه الإسلامي) بالضرورة لديه الإجابة عن ذلك.
} يعني ما يقوم به (مجمع الفقه الإسلامي) يسقط بالضرورة عنكم؟
لا.. ليس دائماً لأنه أحياناً حصلت فتاوى في مجالات الأسرة في الميراث والطلاق في (مجمع الفقه الإسلامي) ووردت لنا الفتاوى.. وأحياناً تحول إلينا بعض الفتاوى ونقوم بالاستدراك ونصحح بعضها لأن علمنا متكامل ونحن لا نتنافس معهم لانو داك أمر سلطاني لكن نتعاون على البر والتقوى.. وعلى ذلك أقول إن الفتوى إذا خرجت من (مجمع الفقه الإسلامي) وبحيثياتها أنا أثق في أنه توخى الدقة والحذر في أن يربط الحكم بالمسوغات الضابطة.
} أنت تحدثت عن الضرورة.. هناك كثير من الضرورات التي لا تتفق مع الشرع.. مثل إقبال من لا يملك حق الأكل على السرقة.. وكثير من أمور الشباب البعض يراها ضرورية وملحة.. فهل يتم القياس على كل الضرورات بالإباحة والإجازة وخرق حدود الله؟
عشان كده أنا قلت ليك القضية فيها تعقيد فقهي لأنه أولاً يتم تحرير نقطة النزاع ثم بعد ذلك النظر في المسألة.. وطبعاً قول أي شخص بأن هناك ضرورات للزنا أو السرقة لا يمكن.. لان هذه القضايا عندها الحكم.. العلماء ناقشوا القضية وخلصوا فيها إلى بيان الحكم بشكل واضح.. وعندما ننظر إلى الربا القضية فيها شيئ من التعقيد.. أنت لا يمكن أن تقتل نفساً وتقول ضرورة.. ولا يمكن أن تشرب الخمر وتقول ضرورة.. ولذلك قالوا إن الضرورة تقدر بقدرها.. لكن لا توجد ضرورة لأكل أموال الناس لأنك اعتديت عليها أو تقتل لكي تنجو.. حتى في شرب الخمر قيل إنه إذا كان هناك شخص اختنق ويمكن أن يموت لهذا السبب يجب أن تشرب (خمرة) بالقدر الذي ينجيك.. ولذلك فإن الضرورة تقدر بقدرها على ذلك كنت أتمنى أن تكون الصحافة أقرب إلى المهنية وتذهب إلى (مجمع الفقه الإسلامي) وتعمل لقاء أقرب إلى العمل وتطرح قضية التعامل الربوي وتناقشها.. وبعد ذلك نرى المسوغات التي دعت (مجمع الفقه الإسلامي) إلى اتخاذ هذا القرار.. وكان من الممكن أن تعمل عملاً فقهياً واسعاً تشارك فيه عدة جهات وتصبح مسألة يناقشها الناس.. لأن هناك تهمة أن الناس أكلوا الربا.. لكن أبداً لا تبيح الضرورة للشخص أن يسرق أو يزني أو يقتل.
} لماذا فقد الشعب السوداني ثقته تجاه كل ما يرد عن هيئة علماء السودان؟
نحن الآن نعتقد أن الشعب السوداني متدين بالفطرة.. والدولة الإسلامية لم تكونها الأحزاب ولا الكلام الممكن يكون ظاهر الآن.. والدولة الإسلامية أصلاً نتجت عن تحالفات إسلامية.. والدولة السنارية عبارة عن تحالفات إسلامية مثل الصوفية وإلى ذلك شكلت بيئة لديها خصوصية في التعامل وأصبحت لدينا هويتنا الإسلامية المميزة.. والشعب السوداني كيفما كان لديه احترام كبير جداً للدين وشيوخ الدين لا سيما إذا وجدوك شيخاً صادقاً لأنه في السودان تعودوا على الشيخ الذي يفتح الخلوة ويزوجهم ويقدم لهم الأكل ويحفظ القرآن.. لذلك أسقطوا القيم المثالية على الشيوخ.. والآن لا تكاد تخلو مكاتبنا من طالبي الفتوى.. ونحن ليس لدينا استقبال ونبين لهم الأحكام الشريعة.. لذلك إن التحدي الأكبر هو أن لا نُصنّف.. وإذا صنفنا كعلماء سلطان فإنه سوف يحدث نزاع لأنه لن يجد الثقة فأين يفرغ غضبه؟ وأين سيجد من يلجأ له وسوف تحدث (فركشة) في المجتمع ولن يحدث التماسك.. ونحن نريد عندما يحدث شيئ للشخص تجاه السلطان يجب أن يجده عند العالم.. ولهذا يجب أن لا يكون العالم تابعاً للسلطان ويحدث انهيار في المجتمع.
} حديثك جميل.. ولكن ما يحدث الآن عكس ذلك لأن الشعب السوداني يقول الآن إنكم لا تنحازون إلى قضاياه الحقيقية.. مثلاً من الممكن أن تصدروا فتاوى بعدم الاستماع إلى الغناء أو عدم مشاهدة المسلسلات وكل هذه الأشياء الانصرافية.. في الوقت الذي يستحيل معه أن تدينوا محتكري السلع الضرورية أو المتلاعبين بقوت الغلابى أو تدينوا الفساد في بعض المؤسسات الحكومية.. أو فساد الوزراء؟
أنا إمام مسجد أم درمان الكبير ومعنا عدد من الأئمة.. لدينا منابر تناقش هذه القضايا بكل جرأة.. لكن هناك مشكلة فقد تجد إعلامياً يركز على مثل هذه النقاط حتى يمنح الانطباع أن الهيئة تتبع للسلطان.. عشان كده نحن الآن نريد أن ننفتح على الصحف ونبرز رأينا تجاه كثير من القضايا في حال حدث فساد من وزير أو خفير أو كبير بكل صراحة وجرأة.. عندما حدثت التظاهرات أبدينا رأينا.. وفي القرارات الاقتصادية جاءنا وزير المالية وأعطيناه رأينا وحددنا الرأي الشرعي.. ولكن لا نرى الإعلام الذي يبرز لنا كل ذلك.. وأؤكد ليست لدينا مصلحة في تجميل وجه السلطان.
} الاختلاسات التي تحدث بالمليارات.. والفساد المالي والأخلاقي والاحتكار وغيرها من الأمور الملحة لا تناقشونها ولا تبدون فيها رأيكم.. البعض يعتبر ذلك خوفاً من الحكومة؟
نحن لدينا الخطاب على مستويين: الأول على مستوى الوعظ بكل وضوح وشفافية كلما ظهرت ملامح فساد أو غيرها نحن نقولها ولكن في إطار الموعظة العامة ولا نستطيع أن نخصص لأننا نحن هيئة علماء السودان متى ما ظهرت لنا مخالفة نتعامل معها بالتعيين وعندنا خطاب عام وبيانات نخرجها ولدينا منابرنا.. ونعتبر أن ألد أعداء الدولة والدين والحكومة لو بتعرف مصلحتها هو الفساد وليست لدينا مصلحة في دس الفساد.. ولكن يجب أن نتثبت قبل أن نصف شخصاً بأنه فاسد ومن خلال منابرنا نتحدث عن الفساد من غير أن نحدد شخصاً بعينه إلا إذا ثبت أنه فاسد والحاجة التي تخرج مننا يكون تأثيرها كبيراً.. ونحن الآن على استعداد إذا ذكرت أية حالة من الحالات نقول رأينا فيها.. فإذا سألتني عن الاختلاسات أقول ليك إنها مخالفة إذا اختلس وزير أو خفير وكل شخص يختلس مالاً بالحرام مسؤول عن رد هذا المال.. وعلى ولي الأمر أن ينزع حقوق الناس حتى لا تضيع ونحن لا نخشى في ذلك لومة لائم.
حوار- محمد إبراهيم الحاج: صحيفة المجهر السياسي
[/JUSTIFY]