القصة الكاملة لتكفير الطلاب الجمهوريين وفصلهم من المعهد العلمي وفصل الشاعر التجاني يوسف بشير

[JUSTIFY]يقول الأستاذ عبدالله الفكي البشير: أدى التباين الفكري والاختلاف الشاسع في الفهم للدين بين الأستاذ محمود ومشائخ المعهد، والذي ظهر بوضوح في المحاضرات والندوات في النصف الثاني من خمسنيات القرن الماضي، وما تبعها من مساجلات، لاسيما محاضرة الأستاذ محمود عن الاشتراكية بمنظور إسلامي، ومحاضرة المبعوث الأزهري عن: «مستقبل الثقافة العربية في السودان»، وقد عقب الأستاذ محمود عليها بمقال بنفس العنوان: «مستقبل الثقافة العربية في السودان»، مع اختلاف كلي في المحتوى ونقد شديد للأزهر، وغيرها من ندوات ومحاضرات، أدى هذا التباين الفكري والاختلاف في الفهم للدين إلى تأسيس عداء وضغينة من مشائخ المعهد والأزهر تجاه الأستاذ محمود.

يضيف الأستاذ عبدالله قائلاً: إن أوضح حدث يمكن أن يؤرخ لبداية ظهور عداء وضغينة مشيخة المعهد العلمي للأستاذ محمود، وقد تبعه أول تشويه للفكرة الجمهورية، هو حادث فصل تلاميذ الأستاذ محمود من المعهد العلمي. والطلاب هم: إبراهيم يوسف فضل الله، ومحمد خير علي محيسي وأحمد عبدالرحمن العجب. فقد عرف الحدث في بيانات المعهد وفي الصحف بحادثة: فصل الطلبة- (الطلاب الثلاثة) ، بينما أطلق الأستاذ محمود على الحدث في بيان له نشر يوم 31 يناير 1960م، أطلق عليه اسم: «نكبة المعهد العلمي المؤسفة». قامت على ضوء هذا الحدث مساجلات صحفية بين الأستاذ محمود ومشيخة المعهد العلمي بأم درمان، وشيخ العلماء محمد المبارك عبدالله (1905م-1990م). كان ميدان المساجلات صحيفة السودان الجديد. على إثر نكبة فصل الطلبة وما تم من مساجلات صحفية حولها، وعلى إثر ما تم سابقاً من مجادلات مع الأستاذ محمود في محاضرات وندوات متفرقة، دخل الفقهاء والقضاة الشرعيون و»علماء السودان» إلى حلبة النقد وبعداء ظاهر للأستاذ محمود.

ما هي قصة فصل الطلبة الجمهوريين من المعهد العلمي؟

يقول الأستاذ عبد الله الفكي البشير لقد وسم الأستاذ محمود هذه الواقعة بـ «نكبة المعهد العلمي المؤسفة». روى الأستاذ إبراهيم يوسف فضل الله، وهو أحد الطلاب الجمهوريين المفصولين من المعهد العلمي، في مذكراته، وفي مقابلة أجريتها معه، يروي إبراهيم قائلاً: كنت قد ناقشت محاضراً حضر حديثاً من الأزهر… فلم يعجب ذلك النقاش بعض اتجاهات الطلبة وربما بعض المشائخ. وفي الغد ذهبت مجموعة من الطلبة شاكية للشيخ من وجود جمهوريين بالقسم العالي. وكنا على أبواب إجازة. فقال لهم الشيخ: بعد الإجازة. وكنا لا نرى أن الأمر مشكلة سنتعرض لها بسبب انتمائنا». ذهب الطلاب للإجازة، وروى تلاميذ الأستاذ محمود القصة له. فقال لهم الأستاذ محمود: «المشايخ لابد سيتعرضون لكم وإذا سألوكم عن موضوع الصلاة فقولوا لهم نحن بنصلي وموضوع الصلاة يمكن أن تسألوا عنه الأستاذ محمود». انتهت الإجازة وعاد الطلاب إلى دراستهم بالمعهد العلمي. وبدأ استجواب مشيخة المعهد لتلاميذ الأستاذ محمود الثلاثة. يقول إبراهيم يوسف: «قدم للمشيخة محمد خير علي محيسي باعتبار أنه جمهوري قدمه أحد المشايخ فحاول الأخ محمد خير احالتهم للأستاذ محمود ومناقشة الأمر موضوعياً فأبوا إلا استفزاز الأخ محمد خير وحصاره ليستخرجوا منه ادانات للأستاذ بالاسم ولما استفزوه في ذلك واجههم بقوله لو صلى (مثل صلاتكم) لما اتبعته وفصلوه». جاء دور الطالب الثاني وهو إبراهيم يوسف، يقول إبراهيم: «حاولت الاستفادة من تجربة الأخ محمد خير ومن أننا نحن في مرحلة دراسية عليا تدرس فيها مختلف الاتجاهات والشيخ نفسه كان يشاع أنه معتزلي. ولكن كل ذلك لم يغير في الأمر شيئاً وهو أن يستصدروا مني ادانات للأستاذ محمود بالاسم فامتنعت وفصلت». أما الطالب الثالث فهو أحمد عبدالرحمن العجب كان طالباً في الثانوي. يقول إبراهيم يوسف: «قص أحد الشيوخ قصة فصلنا بصورة محرفة فتصدى له الأخ أحمد لتصحيحه فقال للاخ أحمد هل أنت منهم فلما أجابه بـ (نعم) ما كان منه إلا أن أحضره للمشيخة فساروا معه نفس سيرتهم للتجريم فرفض ففصلوه».

الشاهد أن الطلاب الثلاثة خضعوا لمحاكمات فكرية ودينية أمام المشائخ، كانت قصيرة في مدتها الزمنية، وطالب الطلاب أن يوجه المشائخ أسئلتهم لصاحب الفكرة الأستاذ محمود، فكان الرد بقرارات سريعة ومتعسفة، قالت بفصل الطلبة الثلاثة. استنكرت الصحف والرأي العام فصل الطلبة، يقول إبراهيم يوسف: ولاستنكار الصحف والرأي العام المستنير احجمت المشيخة عن فصل طلبة جمهوريين آخرين». يقول إبراهيم يوسف: «على اثر فصل الطلبة ذهب الاخ عبد اللطيف للمشيخه ليناقش معهم موقفهم ولكن دون جدوى كما ذهبت بالطلبة الاخت حاجة كلتوم للسيد عبدالله خليل مستنكرة». ثم «حضر الأستاذ محمود من مقر عمله بكوستي وقابل السيد مدير الشؤون الدينية كامل الباقر وطرح عليه مسألة حرمان الطلبة من حقهم في التعليم وأنا صاحب الفكرة التي فصلوا من أجلها فالحق أن نتحاور أنا وشيخ العلماء عن تلك الفكرة فإن وجدت حقاً يرجع الطلبة لتعليمهم وإن وجدت باطلاً يرجعون عنها».

الطلبة المفصولون، في بيان نشر في 5 فبراير 1960م موجه لمشيخة المعهد:

بقي سؤال أخير نوجهه للمشيخة الموقرة هو أنهم كدعاة للإسلام يقولون أنهم يريدون الإسلام ليتحقق به الحكم في المجتمع الإنساني فهل إذا تم ذلك واتسعت دائرة اختصاصهم خارج المعهد فشملت المجتمع هل يعاملون الناس فيه مثل هذه المعاملة التي عوملنا بها نحن كأن ينفونهم أو يسجنونهم أو يقتلونهم لمجرد أنهم لم يقتنعوا برأي من الآراء أو عقيدة من العقائد. أما نحن فنعتقد أن الإسلام بهذه الصورة لا يناسب مجتمع اليوم ونبرئ الإسلام من التزمت والضيق.

كتب الشاعر عبدالله الشيخ البشير في مقدمة ديوانه عن الشاعر محمد عبد الوهاب القاضي قائلاً:

خرج من السودان علي أثر مشادة بينه وبين شيخ المعهد العلمي عام 1935م، لتصديه لقضايا المعهد فحرم من اعطائه الأولية التي كان يستحقها في امتحان الشهادة التي يستحقها في امتحان الاهلية، بطريقة تكاد تشبه الطريقة التي أبعدت التيجاني عن المعهد مع اختلاف في التفاصيل.

مساجلات وبيانات بشأن «نكبة المعهد العلمي المؤسفة»

أصدرت إدارة المعهد العلمي بياناً عن فصل الطلاب الثلاثة من المعهد في صحيفة السودان الجديد، بتاريخ 28 يناير 1960م، وجاء فيه، بعد أن أورد أسماء الطلاب الثلاثة، وعرف بالمستوى الدراسي لكل منهم ومناطقهم في السودان، جاء في البيان: «وقد أخذت الشكوى من هؤلاء الطلاب الذين لم يكملوا بالمعهد سنة دراسية واحدة بل لم ينتموا إليه أكثر من سته أشهر تنهال على إدارة المعهد من زملائهم الطلاب ومن مدرسيهم ومن خارج المعهد.» ثم لخص البيان الشكوى قائلاً: «وتتلخص هذه الشكوى في أن لهم خرافة سخيفة تتنافى مع ما علم من الدين بالضرورة من وجوب الصلاة على جميع المكلفين ولا تليق بطالب في القسم العالي والثانوي وهي أن فلاناً من الناس وصل الى درجة من معرفة الله وتوحيده ارتفعت عنه فيها التكاليف الشرعية وأصبح معصوماً لا ينطق عن الهوى». تحدث البيان عن احتجاج طلاب المعهد واستنكارهم ومجيئهم لمكتب شيخ العلماء قائلاً: «وفي اليوم السابق لإجازة الفترة الثانية 12 من ديسمبر سنة 1959م أقبل الطلاب على مكتب شيخ العلماء يستنكرون هذه الفرية بحالة اجماعية ويبدون أسفهم وتألمهم من أن يسىء هؤلاء الطلاب إلى سمعتهم وسمعة معهدهم». ثم شرح البيان دور المراقب العام وبعض أساتذة المعهد في جمع المعلومات عن الطلبة الثلاثة، يقول البيان: «وبعد عودة المعهد إلى الدراسة بدأ المراقب العام وبعض أساتذة المعهد يجمعون المعلومات عن هؤلاء الطلاب فثبت لهم بما لا مجال فيه للشك أن هؤلاء الطلاب لا يخفون هذه العقيدة ولا يتسترون عليها فلم يكن بد من أن تنظر المشيخة في هذا الموضوع». أعدت المشيخة جلسة للنظر في الموضوع، يقول البيان: «وفي جلسة بمكتب شيخ العلماء حضرها هو ومساعده ومراقب القسم العالي ومراقب القسم الثانوي دعي الطالبان محمد خير المحيسي وابراهيم يوسف فثبت من مناقشتهما في وجوب الصلاة وعموم هذا الوجوب وحكم جاحده وحكم تارك الصلاة أنهما يجحدان وجوب الصلاة على الأستاذ محمود محمد طه». ثم قال البيان: «بل قال المحيسي ببلاهة مضحكه: إن محمود محمد طه لو صلى ما اتبعته». وأضاف البيان: «ثم جاء فضيلة الشيخ حسن إسماعيل المدرس بالمعهد شاكياً من الطالب أحمد عبد الرحمن العجب اعتقاده هذه الخرافة فدعاه الشيخ وكان معه المراقب العام والشيخ حسن اسماعيل وبعد المناقشة ثبت عليه ما ثبت على زميليه ففصلوا من المعهد».

ثم علل البيان أسباب اصرار مشيخة المعهد على فصل الطلاب، يقول البيان: «وقد اشارت جميع لوائح الدراسة بالمعهد إلى أن من أهم أهداف المعهد أن يخرج علماء يتصفون بمكارم الاخلاق والنضج الفكري والوعي العقلي واليقظة وحصافة الرأي، يقومون على تصحيح العقائد ويحافظون على تعاليم الشريعة الاسلامية السمحة ويدعون إلى العمل بها ويخربون الخرافة والدجل». ولهذا «فطبيعي الا تتحمل مشيخة المعهد تبعة تخريج علماء» للفتوى والقضاء والوعظ والارشاد وامامة الناس» من نوع هؤلاء المغفلين الضالين المضلين الذين يجرون وراء الأوهام والأباطيل المفضوحة وأن تصر على فصلهم لئلا تكون النتيجة عكس ما يرمي اليه المعهد فتجيء بذلك على الاسلام والمسلمين». لم تر مشيخة المعهد في فصل الطلاب حجراً للرأي أو محاربة لحرية الرأي، يقول البيان: «وليس في فصل هؤلاء الطلاب محاربة لحرية الرأي من قبل مشيخة المعهد وليس فيه قضاء على مستقبل هؤلاء الطلاب فأمام احدهم المدارس الثانوية وأمام زميليه الجامعات المدنية». فالفصل لا يقضي على مستقبل الطلاب «بل هو مجرد امتناع من أن يضع المعهد ثقته وشهاداته لطلاب لا يؤمنون بالمعارف التي يقوم على تعليمها ونشرها بين الناس ويرمون الى نقيض ما يرمي اليه المعهد في اداء رسالته التعليمية المحددة، ويعملون على تقويض الدين من اساسه». ثم جاء ختام البيان: «فان أخبث من رزئ بهم الإسلام في الماضي هم الذين انتسبوا إليه وحولوا دلالة آيات القران ونصوص السنة عن الأوضاع العربية؛ وحاولوا بذلك هدم الإسلام باسم الإسلام».

في اليوم الثالث من نشر بيان إدارة المعهد عن فصل الطلاب من المعهد، نشر الأستاذ محمود بياناً، في نفس الصحيفة، صحيفة السودان الجديد، نشرت الصحيفة البيان بعنوان: «محمود محمد طه يرد على بيان مشيخة المعهد العلمي». جاء رد الأستاذ محمود في ست نقاط، يقول الأستاذ محمود:

في نكبة المعهد المؤسفة، جرجر شيخ العلماء اسمي بين جدران فصول الدراسة، وشهر بي في الصحف، في بلاغاته، وبيانه الرسمي، وأساء الى سمعتي عند الرأي العام جميعه، بصورة مؤلمة، وأنا أعرف ما لي من حق الرد عليه عند القضاء، ولكن لست بصدده الآن، وانما أنا الآن بصدد ما لي عليه من حق أدبي يجعل من واجب محرري الصحف أن يعطوا هذا البيان نفس الاهتمام الذي أعطوه لبيان الشيخ ولقد كان الطلبة يسألون عن رأيهم فيَّ ويطالبون بإصدار حكم علي أنا بالذات ويراد منهم أن يقولوا عني أمراً لا يرونه فيَّ فاذا قالوا أن محمود محمد طه غائب الآن ولا موجب للتحدث عنه ويمكنك أيها الشيخ الجليل أن تسأله في أي وقت شئت وبأي وسيلة شئت أصر الشيخ على الاجابة المحددة التي يريد.. فاذا ذهب الطلبة ليشرحوا رأيهم في طريقة الاستجواب لم يمهلوا، وانما أعجلوا إعجالا واستفزوا استفزازاً واستخرجت منهم في حالة الاستفزاز والاثارة عبارات بنى عليها الشيخ قراره المؤسف.

إن هؤلاء الطلبة الثلاثة منهم اثنان يحملان الشهادة الأهلية وينتميان الى قسم الشريعة في القسم العالي وهو آخر مراحل المعهد العلمي والشهادة الأهلية في ذاتها درجة علمية لا تحمل الجمهرة الغالبة من خريجي المعهد العلمي أكثر منها، ومع ذلك يقول الشيخ عنهما وعن زميلهما الذي هو ثالث فرقته «إن لهم خرافة سخيفة تتنافى مع ما علم من الدين بالضرورة» ويقول في بيانه عن محيسي وهو حامل الشهادة الأهلية، وهي كما قلنا مرتبة علمية يعترف بها المعهد ولا تحمل الجمهرة الغالبة من خريجيه أكثر منها يقول عنه في بيانه: «بل قد قال محيسي في بلاهة مضحكة أن محمود محمد طه لو صلى ما اتبعته» ويقول عنهم في بيانه أيضاً «من نوع هؤلاء المغفلين الضالين الذين يجرون وراء الأوهام والأباطيل المفضوحة.»

والآن فان هناك أحد أمرين: إما الأفكار التي يحملها الطلبة الثلاثة «من الأوهام والأباطيل المفضوحة» فيكون طلبة المعهد العلمي حتى بعد أن ينالوا درجته العلمية الأهلية غير قادرين على الاعتصام عن «الأوهام والأباطيل المفضوحة»، وإما أن تكون هذه الأفكار أفكاراً صحيحة قوية لها أصالة في الدين، فاتت على شيخ العلماء، وشيخ العلماء يعلم أن هذه الأفكار قد قرأها هؤلاء الطلاب فيما يقرأون من مادة خارج المعهد وهو يعلم مصدرها حق المعرفة فما هو واجبه؟ أليس من واجبه نحو طلابه، ونحو دينه أن يناقش هذه الأفكار ويفضحها ويظهر وهمها وباطلها أو يعرف صحتها وسدادها فيدخلها في المعهد عن بينة، أو يحاربها عن بينة، بدعوى أن للمعهد رسالة محددة، وأن حرية الفكر مكانها المعاهد المدنية لا الدينية؟.

والآن إلى الرأي العام جميعه أسوق هذا الحديث التالي: لقد حملت أنا هذه الأفكار، التي من أجلها رفت شيخ المعهد الطلاب الثلاثة، الى الدكتور كامل الباقر مراقب مصلحة الشؤون الدينية وأخذت من وقته نحو الساعة أناقشه فيها بعد أن تركتها عنده في اليوم السابق ليقرأها قبل النقاش وانتهينا من النقاش وقد اقتنع الدكتور الباقر بأننا لو اجتمعنا أنا وشيخ العلماء في مجلس لعرف عن هذه الأفكار الكثير من ما ينكره الآن فقد كنت أخبرت الدكتور الباقر بأن شيخ العلماء لم يعط نفسه الفرصة ليفهم ما يقوله الطلبة الثلاثة وطلبت منه أن يعمل على ان نجتمع بالشيخ لهذا الغرض فأخبرني أنه سيعقد هذا الاجتماع إما في المعهد العلمي وإما في مكاتب مصلحة الشؤون وشعرت انه يميل لأن يكون الاجتماع بالمعهد اعتبارا لمكانة الشيخ فقبلت.

كان هذا الحديث بيني وبين الدكتور الباقر صباح يوم الثلاثاء الماضي وفي حوالي الساعة الواحدة والنصف من نفس اليوم اتصل الدكتور مشكوراً وقال ان فضيلة الشيخ قد قبل ان يكون الاجتماع غداً الأربعاء الساعة الرابعة بعد الظهر بمنزله فحاولت ان احتج على المكان ولكن الدكتور لم ير في ذلك بأسا وطلب منى الموافقة، فوافقت، وخرجت من مكتبي على ذلك ولكن الشيخ عاد واتصل بالدكتور بعد نصف ساعة ليقول «أعفوني من هذا الاجتماع» ولم يتمكن الدكتور الباقر من الاتصال بي الا صبيحة الأربعاء ليبلغني آخر التطورات.

والآن فاني أرى أنه من حقي وقد خاض الشيخ فيما خاض فيه من أمري ومن حق الطلبة المفصولين والباقين ومن حق الرأي العام السوداني ومن حق الإسلام على شيخ العلماء أن يناقشني في هذه الأفكار نقاشاً علنياً في مناظرة يحضرها كل من يحب حتى ينجلي الحق لذي عينين وإني أعتقد أن من واجب الصحافة أن تعلن طلبي هذا وأن تسانده وأن تسعى لتحقيقه وعلى الله قصد السبيل.

تبع بيان إدارة المعهد العلمي بشأن فصل الطلبة من المعهد، ورد الأستاذ محمود وطلبه لعقد مناظرة علنية بينه وبين شيخ العلماء، لمناقشة الأفكار مع صاحبها، من أجل إحقاق الحق، ودعوته للصحافة بحكم واجبها أن تساند هذا الطلب طلب الحوار الحر المفتوح (المناظرة)؛ تبع ذلك بأن أصدر الطلاب المفصولون في يوم 5 فبراير 1960م بياناً ونشروه بالصحف المحلية. دحض البيان النقاط والوقائع التي وردت في بيان إدارة المعهد العلمي، وفند الادعاءات والتهم. يقول الطلبة المفصولون في بيانهم: «سنتجاوز في بياننا مشيخة المعهد العلمي من الفاظ لا تصلح في مجال فكر ونقاش وسندخل في لب الموضوع الذي استند عليه في فصلنا». فانتقل البيان فوراً للموضوع، يقول الطلاب: «أولاً القول باننا جحدنا الصلاة قول مردود ولم تقم عليه مشيخة المعهد دليلاً ولا يكفي في الصاق تهمه خطيرة كهذه التعميم في الحكم. فنحن لنا آراء خاصة بالتشريع وتطويره ونعتقد أن هذه من أصل الدين فاذا خالف هذا الفهم مألوف العلم نُرمى بالكفر ونُفصل به؟ ونحن نؤمن بالله ونفعل ما يأمر به وندع ما ينهي عنه؟». وعن ما أثارته مشيخة المعهد من ما بلغه الأستاذ محمود، يقول الطلبة المفصولون: «وأما القول باعتقادنا في أن الاستاذ محمود محمد طه بلغ درجة انتهى فيها عن أداء الصلاة بشكلها المعهود، فأمر بنيناه على يقين وفهم، فاذا لم توافقنا مشيخة المعهد فلها ما ترى». وأضاف البيان: «ولكن ليس لها أن تقول أن ذلك كفر وجحود ذلك بأن الكفر والجحود لا يكون الا بالتكذيب للنبي في رسالته وهذا من البديهيات التي كنا نحب الا تغيب عن رجال المعهد والإسلام زاخر بالآراء والاختلافات ومن غير المقبول أن يأتي أحد ويفرض فهماً بعينه على الناس». ثم تناول البيان مبدأ الاختلاف في المذاهب، وأشار إلى ضرورة أن لا يرهن العدل بالاختلاف، يقول البيان: «أما قول المشيخة بأنها لا تريد ان تعطي شهادتها لأناس لا يؤمنون برسالة المعهد ومعارفه المحدودة فقول غير عادل ولا يصلح حجة في هذا المقام فمفهوم بالضرورة أن أخذ أحد العلم عن آخر لا يلزمه بالوقوف مع علمه هذا فقط ولو صح هذا لما رأينا مذاهب في المذهب الواحد يخالف فيها التلامذة أساتذتهم اختلاف رأي حر جرياً وراء الحقيقة وما رأينا أحداً عاب عليهم ذلك، وهو غير عادل لأنا نحفظ للمعهد حرمة ما يدرس فيه ونقدره حق قدره». وتناول الطلاب في بيانهم رمي مشيخة المعهد لهم بالكفر، وأصروا أن رميهم بالكفر لا يسنده دليل، وتحدث الطلاب عن فهمهم لضرورة تطوير التشريع الإسلامي، لأن روح الإسلام تحمل ما يلائم الوضع الجديد بما يسع المجتمع الإنساني الحالي، كما ورد في صدر المحور السابق. وعن التطوير الذي يعتقد به الطلاب، يقول البيان: «ومن التطوير الذي نعتقد أنه لازم في الوضع الجديد أن العبادة لا يكره عليها الناس كما كان يجري ذلك في الماضي لمناسبة الاكراه في ذلك الزمن ومناسبة الاحكام للأحوال أمر مهم جداً في الفكرة الدينية وعلى الخصوص الإسلام». وأضاف الطلاب في بيانهم قائلين: «إننا نرى أن تطوير العبادة يكون في معنى أن لا يحمل أحد عليها إلا بالإقناع والقدوة الحسنه مستندين في ذلك الى قوله تعالى «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى» ونرى أن لا طريق لأحد يريد وجه الله إلا بالصلاة وادائها بإتقان يحقق الغاية منها». ثم أضافوا قائلين: «فإذا قام أحد مقلداً النبي بوعي ودقة وجودة فإنا لا نستبعد أن يحصل بها التحرر، وهو في الحقيقة لا يكون قد ترك الصلاة وإنما نقل الصلاة وجعلها في كل أوقاته، وفي هذه الحال اذا طالبناه بالتمسك بالشكل المعهود في الصلاة نكون بذلك قد حجرنا عليه حريته الشخصية، وفرضنا عليه الانصباب في قالب، يرى هو انه لا يناسب شخصيته الجديدة المتميزة، وحجتنا في ذلك السير الطويل للإنسانية ومصاحبة الاديان لها في شتى مراحل سيرها فالصلاة لم تنقطع عن الأرض يوماً ولكنها مع ذلك لم تقف في صورة واحدة». وعن الأستاذ محمود يقول البيان: وأما أن الأستاذ محمود محمد طه لا ينطق عن الهوى فأقرأوا قول النبي «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» وهذا أقل مراتب الايمان، والخير لا يصدر عن الهوى بالطبع واذا كنا لا ننتظر من الإسلام أن يبلغ بالمسلم مبلغ التحرر من الهوى فماذا ننتظر منه إذن؟ والقرآن يحدثنا عن الربانيين والصديقين أفلا يرى السادة المشائخ أن الربانيين والصديقين لا يصدق عليهم هذا الوصف الجليل إلا إذا كانوا متحررين لا ينطقون عن الهوى؟ فاذا كانوا يوافقوننا في ذلك هل يعترضون أن يختص الله محمود محمد طه أو غيره مِنْ مَنْ يشاء من عباده بهذه الرحمة؟.

المعهد وثقافة التكفير والإسهام في تشكيل العقل الثقافي السائد

مواقف المعهد من الفحولة الفكرية والعقول الكبيرة: التجاني يوسف بشير (1912م-1938م)

لقد واجه الشاعر التجاني يوسف بشير الظلم والتكفير من المعهد ومشيخته وكذلك ابن عمه الشاعر محمد عبدالوهاب القاضي الكتيابي. يقول الصحفي يحيي محمد عبدالقادر (1914م-2011م): في أواخر عام 1935م قدمت إلى الخرطوم… وعملت في جريدة النيل… وذات مساء وأنا أعكف على تصحيح الجريدة… أقبل شاب شديد السمرة، نحيل، ضامر العود، متوسط الطول، خفيف الحركة، ساكن الريح، يلبس جلباباً من الدبلان، وعمامه من (الكرب) ونعلاً من مصنع أم درمان، وسلم ثم جلس، وأراد أن يشقق الأحاديث ويعرفني بشخصه، ولكني كنت في حالة لا تعين على الاستماع، فمضيت أنهي ما أمامي… وسرعان ما وجدت نفسي في عرض الطريق.. ولم أذكر ذلك الشاب إلا وأنا داخل (سينما كلزيوم) ومضى اسبوع كامل وإذا بالشاب يعود مرة أخرى، وأعرف أنني إزاء التيجاني يوسف بشير..التيجاني «خرج من المعهد الديني متهماً بالإلحاد دون أن يستوفي دراسته، ثم سطع كما تسطع الجوهرة بين الأدران… وهو ظاهرة إنسانية فريدة

وثَّق الشاعر التجاني يوسف بشير الظلم الذي وقع عليه من المعهد ومشائخه، وشهَّد الأجيال عبر الزمان على ذلك الظلم، فكتب قصيدته الشهيرة: «المعهد العلمي». ودعانا في تلك القصيدة الشاهدة، أن نقرأها لنقف على تفاصيل ما أصابه من أذى وقتل معنوي. إن أقل ما أصاب التيجاني من جراء اتهامه جزافاً من المعهد العلمي بالإلحاد والكفر، أنه فصل من دراسته وقتل معنوياً، فتغيرت حياته وعطلت طاقاته. كتب التيجاني معزياً نفسه ومعبراً عن ما واجهه من قسوة من المعهد العلمي ومشائخه، كتب التيجاني قائلاً:

هُوَ مَعهَدي وَلَئن حَفظت صَنيعه فَأَنا اِبن سَرْحته الَّذي غَنـى بِـهِ

فَأُعيذ ناشئة التُقـى أَن يرجفـوا بِفَتى يَمت إِلَيـهِ فـي أحسابـه

ما زِلت أَكبُر في الشَباب وَأَغتَدي وَأَروح بَينَ بخٍ وَيا مَرحى بِـهِ

حَتّى رميت وَلَستُ أَول كَوكَـب نَفَس الزَمان عَلَيهِ فَضل شِهابـه

قالوا وَأرجفت النُفوس وَأَوجفـت هَلَعاً وَهاجَ وَماجَ قَسـور غابـه

كفر ابن يوسف مِن شَقي وَاعتَدي وَبَغى وَلَسـتُ بِعابـئ أَو آبـه

قالو احرقُوه بل اصلبوه بل انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابه

وَلَو ان فَوق المَوت مِن مُتلمـس لِلمَرء مـد إِلَـي مِـن أَسبابـه

لم يكن التيجاني وحده الذي واجه الإرهاب والقتل المعنوي، ولحقه الأذى من المعهد العلمي ومشائخه، فقد أورد حيدر إبراهيم علي قائلاً: شاعراً آخر هو محمد عبد الوهاب القاضي، والذي يقول عبدالله الشيخ البشير في مقدمة ديوانه: «خرج من السودان علي أثر مشادة بينه وبين شيخ المعهد العلمي عام1935م، لتصديه لقضايا المعهد فحرم من اعطائه الأولية التي كان يستحقها في امتحان الشهادة التي يستحقها في امتحان الاهلية، بطريقة تكاد تشبه الطريقة التي أبعدت التيجاني عن المعهد مع اختلاف في التفاصيل». وقال فيهم:

لقيت من الدنيا ومن ظلم أهله نضيض الافاعي في سموم العقارب

الفاتح محمد الامين: صحيفة اخبار اليوم

[/JUSTIFY]
Exit mobile version