في الآوانة الأخيرة – برز الحديث عن القبلية والجهوية والمحسوبية والإنفصال والإستفتاء والمفاصلة. هذا الوضع الخطير ما كان له أن يكون في وطن شهد أبهي صور وحدة الصف الوطني قبل اكثر من مائة عام. كذلك اكتنف السودان هذه الأيام إحساس عارم بضرورة رتق النسيج الإجتماعي وتحقيق الإصطفاف الوطني خلف الاهداف الوطنيةالسامية والمضي قدما نحو بناء السودان عبر التراضي والقبول بالآخر – عبر التعدد والتنوع في الفكر والثقافة والتوحد في القبلة والملة والثوابت الوطنية. وتأتي هذه المساهمة لتقدم بعض المراجعات والمقاربات فيما يتعلق بمسألة الوحدة الوطنية والتبشير بإمكانية إعادة إنتاج تلك المواقف الوطنية الخالدة في زماننا الحاضر.
شيكان:
إن الدولة المهدية الدينية مهما اختلف الناس حولها – فإنهم يتفقون تماما علي أنها وحدت قبائل وقلوب ومصائر السودانيين وجعلتهم أمة واحدة موحدة وموحدة خشيت بأسها الأمم. وقد مثلت معركة شيكان المهدوية علي الرغم من أنها لم تكن المعركة الاخيرة, مثلت نهاية عهد الحكم التركي السابق وبداية الدولة المهدية في السودان. بعدما انتصر الإمام المهدي عليه السلام وأنصاره في معركةالجزيرة أباوتحرك إلي جبل قدير ومناطق كردفان وهدد مركز الأبيض واستجاب لدعوته خلق كثير من السودانيين, شعرت الحكومة بضرورة وضع حد باتر لثورته الدينية.فأحضرت قائداً إنجليزياً فذاً له سمعته العالمية التي اكتسبها في معارك عديدة منها حرب البوير بجنوب افريقيا. جاء هكس (النعيل) باشا إلي الخرطوم ودرس الامر وقرر السير إلي جبل قدير لسحق (الدرويش) محمد أحمد المهدي واتباعه الأنصار. أعطي هكس باشا تعليمات صارمة في الحامية بجنوب امدرمان للحفاظ علي سرية خطة سير الحملة واخبارها بل أمر بإعدام أي شخص يتفوه بالحديث عن هذا الامر. في مثل هذا الجو خرجت السيدة رابحة الكنانية التي كانت تبيع اللبن لسكان المعسكر الحامية وقد سمعت بخبر الحملة – خرجت تجري علي أقدامهالمدة ثلاث أيام حتي بلغت الإمام المهدي واخبرته بأمر هكس النعيل هذا وخطته الجهنمية تلك. فرتب الإمام المهدي عليه السلام أمره ووضع هو الآخر خطته لإجهاض حملة هكس والقضاء عليها. وهنا ظهر تلاحم الشعب السوداني البطل التلاحم المنقطع النظير عندما ارتحلت كل القبائل الموجودة علي طريق الحملة عن قراها وتم دفن جميع آبار المياه وحملت كل ما يمكن أن يؤكل من العيش الذرة وخلافه وذلك ما بين مدينة الدويم الحالية وغربا حتي تخوم جبل قدير. سارت الحملة عبر مناوشات متقطعة وكثيرة من قبل رجال الأنصار وتمت جرجرتها حتي بلغت غابة شيكان وهي منهكة ولكنها شكلت “المربع القتالي الإنجليزي ” المعلوم المحروس بالمدافع والنيران الفتاكة. بنعمة من الله وفضل استطاع الانصار بالجسارة والقدرة علي اكل الجمر الحي, تمكنوا من كسر وإقتحام المربع الإنجليزي والدخول في قلبه وإبادة هكس النعيل وجميع أفراد جيشه المدرب إبادة تامة, ثم توالت الإنتصارات المهدية في مواقع كثيرة, فوضع المهدويون الانصار بذلك حدا لدولة الإستعمار التي كان جاثمة فوق صدر السودانيين ردحا من الزمان. والذي يهمنا هنا أن الإمام المهدي عليه السلام يمثل الشمال السوداني والخليفة عبدالله التعايشي والامير إبراهيم الخليل (أحمد إبا البيقاوي) أمير جيش الكارا يمثلون دارفور وأن الامير عثمان دقنة يمثل الشرق وغيرهم وغيرهم يمثلون كردفان والجنوب والوسط في تمازج قبلي عظيم صنعوا تلك الدولة متحدين. بل أن اهل الصوفية هم الذين درس الإمام المهدي العلوم الدينية علي أيديهم فكان هناك قدر كبير من التصالح الديني رغم اختلاف وجهات النظر في الفروع وليس الاصول من امور الدين.
كرري:
في معركة كرري التي قصمت ظهر دولة المهدية تتجلي شجاعة السودانيين التي شهد بها الاعداء والغزاة الحاقدين من القوي العالمية البغيضة والإستعمار الوحشي اللعين. لقد ثبت الانصار بغض النظر عن قبائلهم وإثنياتهم, ثبتوا بأرض المعركة ومنهم من قضي نحبه ومنهم من انتظر وتحرف لقتال المستعمر في معارك أخري ولكن سلاح المكسيم المدفع الآلي الحارق كان له بتقدير الله الإثر البالغ في حسم تلك المعارك لصالح المستعمرين. وللأسف كان أن لعب بعض الخونة وبعض الجستابو دوراً هاما في تحقيق النصر وترجيح كفة الغزاة الضالين.
علي الرغم من التحدي الكبير الذي نشأ بعد وفاة الإمام المهدي عليه السلام بعد ستة أشهر من فتح الخرطوم وإنتصار الدولة المهدية بعد مقتل غردون باشا – ذلك التحدي الذي واجه الخليفة عبدالله التعايشي الحاكم الفعلي للدولة المهدية لعدد من السنين – وهو تحدي العنصرية والجهوية الذي قسم الناس إلي الأشراف وأولاد البحر أو البحارة والجلابة واولاد الغرب. وهذا التحدي كان له اسهاماتهالعميقة في القضاء علي الدولة المهدية في كرري وما بعدها. وعلي الرغم من ذلك التحدي فقد استطاع بعض الأبطال مثل عبدالقادر ود حبوبة (بتريد اللطام – أسد الكداد الزام – هزيت البلد من اليمن للشام- سيفك للفقر قلام), استطاع أن يواصل مجاهدة الكفرة الملاعين إلي ان تم إعدامه في 24 القرشي بالجزيرة وسط السودان. وكان قد قاتل معه وجرح الدارفوري السيد/ محمد ابن الامير المهدوي إبراهيم الخليل قائد جيش الكارا. وبعد أن فرش الخليفة عبدالله فروته واستشهد عليها في ام دبيكرات بعد تآمر المتآمرين ومات ميتة الرجال الفرسان الشجعان التي فاتت علي الكثير من القادة في الزمن الحاضر مثل المرحوم القذافي الذي أستخرج من داخل مصرف مياه علي طريق الأسفلت وهو ملك ملوك أفريقيا ورئيس الجماهيرية الإشتراكية العظمي وإمام المسلمين وكذلك فاتت علي المرحوم صدام حسين الذي نازل امريكا وقد استخرجوه هو الآخر من جحر في الأرض عميق. ألا رحم الله الخليفة عبدالله التعايشي ود تور شين الذي رفع رأس السودانيين بموته المشرف عليه رحمة الله.
لقد تواصل تجانس السودانيين بمختلف سحناتهم وقبائلهم وإثنياتهم حتي أيام الإمام عبدالرحمن المهدي الذي كان له الفضل مع إخوته في إنجاز إستقلال السودان. وحتي يومنا هذا إذا أمعنت النظر في حزب الامة بكل فروعه الموالية وغير الموالية لرأيت بداخله أناس من شتي قبائل السودان ليس بينهم نعرات قبلية او نحو ذلك. بل أن كثيراً من الاحزاب الحديثة بخاصة الإسلامية قد نشأت علي أنقاض حزب الامة وكيان الانصار خصوصا بعدما بدا علي الحزب عدم القدرة علي الإتيان ببرامج تستوعب احتياجات الحاضر والمستقبل من الشئون السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها. ولربما كان التشظي الذي شاب حزب الامة وغيره من الاحزاب قد جاء بفعل فاعل لاغراض سياسية, ولكن اتكاء حزب الامة علي خلفية دينية هي العقيدة الانصارية ينبغي أن يعصمه من ظاهرة الإنشطار الحزبي هذه ويؤهله للمضي قدمافي طريق الإصطفاف الوطني المطلوب لبناء الدولة السودانية من جديد.
الوثبة الكبري:
يأتي مشروع “الوثبة الكبري” الحالي كثمرة لتجربة ربع قر من الزمان عاشها الحزب الحاكم في إدارة شئون البلاد ومعه شعبها الصابر في شمال وشرق وغرب وجنوب ووسط السودان. جاء المشروع منادياعلي جميع أفراد الشعب السوداني أن هلموا إلي كلمة سواء بيننا. وحتي لا يحدث فراغ دستوري يذهب معه ريح السودان فقد بقي السيد رئيس الجمهورية فوق الجميع بما في ذلك حزبه الحاكم وجعل المسافة بينه وبين الجميع أحزابا وأفرادا متساوية. تحدي السيد المشير عمر حسن احمد البشير رئيس الجمهورية حزبه قبل أن يخاطب الآخرين ويبدي التنازلات اللازمة بكل شجاعة امام الملأ وبشهادة الله سبحانه وتعالي وشهادة الشاهدين في السودان والإقليم وجميع دول العالم. خاطب مشروع “الوثبة الكبري” قضايا: الحريات – التساوي والندية بين الاحزاب – الإقتصاد – الوحدة الوطنية – الهوية – الدستور – الإنتخابات الحرة النزيهة- السلم والسلام – والحركة القوميةالإجماعية التي تعبر عن كيان واحد اسمه السودان.
بهذا يكون مشروع “الوثبة الكبري” قد تناول مسألة”كيف يحكم السودان” وليس “من يحكم السودان”. إن قيام الحزب الحاكم بتغيير من يقودون العمل بداخله بحيث لم يستثن أحدا من قياداته التاريخية المعروفة من وزن السيد الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب السابق لرئيس الجمهورية وهو رجل الفكر السياسي المعتدل عفيف اللسان ومن هم دونه كذلك في عملية أقل ما يمكن أن توصف به هو “الربيع السوداني الخالص” – مهما كان رأي الناس فيما قام به الحزب الحاكم فإن قدرته علي تغيير قياداته وتمكين الشباب من تحمل الامانة امانة القيادة سيحسب لصالحه وليس لضده أبدا. إذن المطلوب من جميع الاحزاب القيام بإجراء مماثل – حتي لو احتاجت لمزيد من الوقت لتربية كوادرها الشابة, فذلك أيضا من حقها. ولدينا في السودان مشكلة كبيرة في مسألة تربية وتدريب وتأهيل الخلف من قبل السلف. علينا أن نتعلوم ونتعود علي إعداد قادة المستقبل وأن نجعل انتقال المسئوليات بين الاجيال انتقالا سهلا ميسورا.
أري أن التداعيات التي برزت في الآونة الأخيرة والتي قادت إلي فصل جنوب السودان وأحالته إلي دولة لا يدري أحد أتكون صديقة حميمة أم عدو لدود والاستفتاء المتوقع لدارفور في إطار اتفاقية الدوحة للسلام ومظاهر الصراع القبلي والجهوي المستعر في دارفور وعدم احترام تاريخ الأمة السودانية وتجاهل الإدارة الاهلية صاحبة الحكمة (وقيل عنها أنها مثل الحمار الذي يحمل العسل علي ظهره فهو لا يأكله) والتعقيدات التي صاحبت الاوضاع الاقتصادية الماثلة والتعنت الغربي أمام مسألة إعفاء ديون السودان والإستمرار في وضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب وحرمانه من جلب قطع غيار الطائرات وغير ذلك من النكايات – كل هذه الظروف تدعونا لدعم مشروع “الوثبة الكبري” والترويج له علي الرغم من عدم إلمامنا الكافي بتفاصيله.
يكفينا منه إجلاس السيد الدكتور حسن عبدالله الترابي والسيد الإمام الصادق المهدي والسيد الدكتور غازي صلاح الدين العتباني وآخرين إلي جانب السيد المشير عمر البشير رئيس الجمهوية في قاعة الصداقة في لحظة واحدة يتلي فيها البيان الأول لهذا المشروع الممتاز, ويتم فقأ عين الشيطان وتنطفيء نار الفجور في الخصومة(إذ كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).
نأمل أن تستمر التفاهمات لاستكمال مطلوبات هذا المشروع دون الإلتفات إلي بعض ردود الأفعال غير الموفقة وغير الموافقة وغير المصدقة لمثل هذا المشرع. يجب أن تكون رسالتنا هي دعم العملية السلمية ودعم التحول والتغيير نحو الافضل بأقل الخسائر الممكنة.
وكما قال الشاعر وتغني الفنان أبو عركي البخيت (أبو النسب) سابقا: أي زول بحمل رسالة -امينة صادقة بعيد مداها – يعرف التأريخ بسجل – كل خطواته المشاها … والحدود الفاصلة هي …يبقي عندنا مسئولية.. المسئولية .. المسئولية.
مشروع “الوثبة الكبري” يجب أن يعيد رتق النسيج الإجتماعي السوداني علي أساس المواطنة وليس علي أساس القبلية أو الجهوية وأن يعصم السودان من الفساد والمحسوبية وينطلق به في رحاب العدل والمحاسبية الي ذري التقدم والازدهار.
للسودان تأريخ طويل وعميق في وحدة الصف الوطني منذ عهد المهدية وبإمكانه تجاوز جميع تحدياته الحالية.
المهندس إبراهيم عيسي البيقاوي – النيلين [/JUSTIFY]