لقد تحدث البشير في خطابه منتصف الأسبوع الماضي عما وصفه بمشكلة الفقر، وما أسماه بالاحتقان السياسي في البلاد، وقال إن هذه المواضيع سيتم تناولها في حوار وطني بين مختلف الأطراف السودانية بما فيها الحركات المسلحة شرط تخليها عن العنف للمشاركة فيما سماها المناظرة الوطنية للحوار حول قضايا السودان. وجاء الخطاب في سياق تدهور كبير في الاقتصاد السوداني وتراجع حاد في إيرادات النفط، وهو المصدر الرئيسي للدخل الحكومي، وارتفاع معدلات التضخم بعد فقدان الجزء الأكبر من حقوله النفطية الحيوية (75%) في أعقاب انفصال جنوب السودان في يوليو 2011. واضطرت الحكومة إلى تخفيضات للدعم وإجراءات أخرى للتقشف اتخذت في سبتمبر الماضي في محاولة للتغلب على الأزمة مما أدى إلى اندلاع احتجاجات هي الأعنف في البلاد منذ عدة سنوات.
البعض ربط بين زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والناشط في مجالات إنسانية عديدة للسودان ومقابلته للرئيس البشير، فضلا عن إشادة واشنطن بموقف الخرطوم من الأزمة في دولة جنوب السودان، وبين تعديلات هيكلية في نظام الحكم رعتها الولايات المتحدة الأمريكية كان من المفترض الإعلان عنها في الخطاب، مقابل جزرة قدمتها واشنطن للبشير.. والسيناريو الذي يؤمن به أولئك وهو تراجع البشير عن تعديلات هيكلية مهمة، اختلف أولئك في مسبباته؛ فالسبب الأول عند الفريق الأول هو أن واشنطن لم تقدم الضمانات اللازمة لاطمئنان البشير وهي عنده غير وفية بوعودها، والفريق الثاني يعزي التراجع إلى رفض المؤسسة العسكرية لتلك التعديلات. والتعديلات الهيكلية والتي سبقتها خطوات بخروج أبرز اللاعبين النائب الأول السابق علي عثمان محمد طه ومساعد الرئيس السابق نافع علي نافع، هي أن يتم تشكيل مجلس حاكم قومي يضم أركان المعارضة بشقيها المدني والمسح بحيث يضم كلا من محمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، والصادق المهدي زعيم طائفة الأنصار وزعيم حزب الأمة، وحسن الترابي الأب الروحي للحركة الإسلامية وزعيم حزب المؤتمر الشعبي المنشق عن حزب الرئيس البشير، بالإضافة لممثل أحزاب اليسار وممثل للجبهة الثورية المتمردة. ويستتبع ذلك تأجيل الانتخابات ووضع قانون جديد لها. ويأتي ذلك مقابل ضمانات أمريكية بتسوية ملف المحكمة الجنائية الدولية التي تتهم الرئيس البشير بارتكاب جرائم حرب، فضلا عن تطبيع علاقات الخرطوم بالمجتمع الدولي لاسيَّما واشنطن والاتحاد الأوروبي ورفع العقوبات الأمريكية الاقتصادية المفروضة على السودان. فالتراجع تم لأن البشير لم يحصل على هذه الضمانات، أو أن الجيش رفض عودة الأحزاب بهذه الصورة وهو الذي ثار ضدها في العام 1989.
لعل الوعود بتلك التعديلات هي التي جعلت حسن الترابي يحضر الخطاب في سابقة هي الأولى من نوعها عقب ما عرف بالمفاصلة بين البشير والترابي في العام 1999. لكن مع ذلك لم يبد الترابي أي تبرم ملحوظ عقب الخطاب وخرج سعيدا على ما يبدو وقال فيما بعد القيادي بحزبه، محمد الأمين خليفة، في منتدى سياسي حول الخطاب: (إن ما جاء في وثيقة الإصلاح السياسي الشامل التي طرحها المؤتمر الوطني في خطاب الرئيس عمر البشير، يحوي عدة مؤشرات إيجابية، تتمثل في خمسة محاور أساسية تصلح مرتكزات للانطلاق منها لإصلاح شامل). وكانت السعادة أيضا ديدن قادة الأحزاب الأخرى مثل الصادق المهدي ونجل محمد عثمان الميرغني. وهذا يشير إلى أن الأيام والأسابيع المقبلة حبلى بتغييرات مهمة قد يعلن عنها البشير حال زوال أسباب التراجع الذي أبداه في خطابه الأخير.
بقلم/ د. ياسر محجوب الحسين
بوابة الشرق
م.ت[/JUSTIFY]