وإن كان ثمة محمدة فهي تدوين ذلك التأريخ من قبل هؤلاء المؤرخين وحفظهم وإشارتهم لعدد من الحوادث والاحداث الهامة التي كان ينبغي أن تكون محوظة في ذاكرة الأمّة السودانية. وبما أن معظم الأحداث التي جرت لا تبعد زمنياً أكثر من 200 عام فإذن من الممكن إجراء دراسات عميقة ترعاها الدولة لتحقيق وتنقيح وتصحيح تأريخ السودان وذلك باستخدام الوسائل العلمية الحديثة ودراسة الآثار المدفونة تحت سطح الارض في كل مكان بالسودان والتي ستنبيء عن الكثير المثير .
أعود لموضوع حروف المؤرخين الذين كتبوا باللغة العربية وهم من أصول عربية مثل المؤرخ محمد ابن عمر التونسي الذي ألّف كتاب “تشحيذ الأذهان بسيرة العرب في بلاد السودان” وكتاب آخر عن مملكة ودّاي وكذلك المؤلف البكباشي حسن قنديل الذي ألّف كتاب “فتح دارفور سنة 1916م ونبذة من تأريخ سلطانها علي دينار” والذي طُبِع علي نفقة الأمير عمر طوسون سنة 1356هـ – 1937م.
ونحن اليوم بصدد تناول مؤلف البكباشي حسن قنديل (المصري الجنسية) والذي طُبع عام 1937م كما أسلفنا. هذا الكتاب عبارة عن توثيق حربي ليوميات رجل عسكري إرتحل في متحرك مدرّع بالمكسيم ذلك المدفع الآلي الذي يحمل الجحيم في فوّهته وقد كان له الأثر البالغ في حسم معركة كرري الكبري التي بخسارتها انحسرت دولة المهدية الدينية وتلاشت ولو بعد سنوات من تلك المعركة.
لقد برّر البكباشي حسن قنديل حملتهم لإسقاط مملكة السلطان علي دينار بأنه قد إرتكب جرماً كبيراً تمثّل في تمرّده علي حكومة الخرطوم آنذاك وعصيانه ورفضه دفع الجزية السنوية وأنضمامه إلي أعداء الحلفاء في الحرب العالمية الكبري أي إلي جانب تركيا وألمانيا والنمسا والمجر فجرّدوا له حملة تقتص منه وتنزله من شامخ مجده وسؤدده وذلك في 10 فبراير سنة 1916م وكان من بين الوحدات السريعة التحرك (البطارية المكسيم الجمالي الخصوصية السريعة). والمؤلف بكباشي حسن قنديل هذا من ضباط الجيش المصري ورئيس قلم جوازات السفر بميناء الإسكندرية حتي 25 أغسطس 1937م تأريخ تسليمه لمؤلفه المذكور للطباعة ليد سمو الأمير عمر طوسون بمصر.
يصف المؤلف السلطان علي دينار بصفات غير حميدة ويمجّد أخته الميرم تاجا التي حثّت أخاها السلطان علي الثّبات في قتال الغزاة ولكن قدّر الله لسلطنته الإنهيار والكسر في معركة “برنجية”. وما ذبّ عن السلطان علي دينار في ذلك المؤلف إلّا إفادات رئيس الربع “الثامن” الرجل الشجاع وجسور الخليل واد كرومة الشهير ورئيس قبيلة الميما. هذا الرجل وهو في الأسر وتحت الإستجواب ومضروب برصاصة مرّت من ثديه الأيمن وخرجت من نصف ظهره الأيسر, أي ضلعه الأيسر علي بعد ثلاث أصابع سلسلة الظهر والأخري مرّت من كف رجله اليمني ووآثار دانة مرّت أي قذيفة مرّت علي ظهره مروراً, وقد سبّبت له ما يشبه الشلل, هذا الفتي الأسمر الفاتح الذي تبدو عيناه كعيني الصقر لا تستقران مع حلاوة فيهما مستدير الوجه ذو اللّحية المستديرة وبثبات غريب أجاب علي البكباشي حسن قنديل عندما قال له (ان السلطان كان جاهلاً سكيرا, هذا فضلاً عن إرهاقه الرعيّة بالظلم والجور والحيفف ومع ذلك لا يخاف الله), اغتاظ الاسير الجريح وأجاب في حدّة مع التأدّب وقال للبكباشي حسن: (إن ما بلغكم عنه لزور وبهتان واففتراء. ولو كان سكيرا كما تقول لما أمكنه أن يدير دفة الملك الواسع ما يربو علي التسعة عشر عاماً بدقة وإحكام. ولو كان ظالماً فظاً لانفض الناس من حوله). وزاد علي ذلك بقوله: (إن السلطان كان رؤوفاً رحيماً برعيته كريماً جواداً كثير الإحسان مسلماً تقيّا جمع كل صفات الخير والبر والرحمة). انظر أيها القاريء الحكيم لهذا الكلام الذي بلغ الحكمة والولاء الذي أنضجه الذكاء الفطري وسرعة الخاطر العجيب ودلّ علي وجود مبدأ سام شريف في الرجال من جنس هذا الرجل الفذ الأسير الجريح الذي لا سبيل بل لا وسيلة في نجاته من جلّاده.
لقد نال هذا الرجل السوداني اعجاب البكباشي حسن قنديل القادل بخيلاء فوق ثري الفاشر الطاهر عقب تدنيسه بإنتهاء معركة برنجيّة. لقد أكبر البكباشي حسن ذلك الرجل وأصبح ينظر إليه بعيني قلبه وليس بالنظر السطحي, بل اعتقد جازماً لو أن رجلاً آخر مكانه لقال هكذا: (ما حيلتي وأنا غير مخيّر ففي نفسي وما عملت كلّ ما عملت إلّا مجبراً خوفاً علي دمي أن يريقه السلطان), غير أن الخليل كان غاية في الشجاعة الخلقية وياله من ميماوي دارفورى سوداني شهدت بشجاعته الأعداء الغزاة لعنهم الله ففي الدنيا والآخرة.
لم يذكر البكباشي حسن قنديل ولم تسعف البطل الخليل ود كرومة ظروف الأسر والجراح التي هو ففيها حال استجوابه أن يذكر أيضاً أن السلطان علي دينار كان يكسو الكعبة المشرّفة من بين عددٍ قليلٍ من ملوك ذلك الزمان الذين يففعلون ذلك وأن محمل السلطان السنوي كانت تنظره مدينة جدّة بفارق الصبر. ولم يذكرا أن آبار علي الحالية واسمها الآخر ذو الحُلَيفَة وهي موضع الغحرام المكاني لاهل المدينة المنوّرة وبلاد الشام وشمال المدينة وأن عليّا الذي سُمِّيت باسمه الآبار هو علي دينار ابن زكريا ابن محمد الفضل ابن عبدالرحمن الرشيد ابن دورشيد وجميع أجداده سلاطين مسلمين لا أظن أن البكباشي حسن قد رُزق مثل هذا النسب والحسب السلطاني المسلم ولكنّها قوّة المكسيم السلاح الناري الفتّاك جعلته يفتك بهذا الحمي العظيم ذو القدر الفخيم. لقد ترك علي دينار أوقافاً تشهد عليها مدينة جدّة وغيرها من الأوقاف الدينارية.
من بين أجداد السلطان علي دينار (ول زكريا), السلطان محمد الفضل الملقّب ب”العادل” وب”قمر السلاطين” وهو ابن السلطان عبدالرحمن الرشيد الذي تزوج من السيدة الميرم “أمبوسة البيقاوية” ابنة السلطان عبدالحميد وانجب منها هذا السلطان العظيم الذي تولّي عرش دارفور وعمره 14 سنة. و للميرم أمبوسة البيقاوية شقيق اسمه “فزاري” كان يسقي البقر علي حوض ماء علي بعد 50 ميلاً من الفاشر, ففلمّا بلغه نبأ تسلّم ابن أخته عرش سلطنة دارفور وزّع أبقاره علي الحضور بحوض الماء وطلب منهم إحضار عنقريب, جلس عليه وطلب من الحضور من قبائل متعددة حمله علي اكتافهم حتي يبلغوا به الفاشر وقد فعلوا. وقد ولّي السلطان محمد الفضل خاله فزاري مملكة (وزارة) شئون خوال السلاطين. (انظر كتاب تأريخ وجغرافية السودان, تحقيق محمد ابراهيم ابو سليم). السلطان محمد الفضل هو أيضاً جد السيدة “مقبولة” التي أحضرها أخوها الامير عبدالله “دود بنجه” ابن بكر ابن محمد الفضل “الفوراوي” معه إلي الأبيّض حيث قابل الإمام المهدي “عليه السلام” وقال له إني جئتُ إليك في شان الله بأربعة: نفسي وحصاني وسيفي وأختي. نففسي للشهادة في سبيل الله وحصاني للحرب في سبيل الله وسيفي للقتال في سبيل الله وأختي للمصاهرة, فقبلها الإمام المهدي وسمّاها “مقبولة” ويحلو للانصار ان ينادوها بهذا الإسم. أنجب الإمام المهدي منها إبنه عبدالرحمن والد السيد الصديق والد السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق والأسبق. وتعتبر يُمّة مقبولة ابنة عم السلطان علي دينار زكريا محمد الفضل فجدّهما لابويهما هو السلطان محمد الفضل.
لو كانت كتابات بعض المؤلفين الناطقين بالعربية من المسلمين الاجانب علي السودان لو كانت هذه الكتابات والاحرف والكلمات التي صاغوها بها لو كانت قد كُتِت في العصر الجاهلي قبل ظهور الإسلام لكان ذلك مفهوماً في إطار مفهوم أن “عبيد العرب أهل السوادن” او كما جاء في شرح الزوزني للمعلّقات (معلّقة عنترة ابن شدّاد): هل غادر الشعراء من متردّم ام هل عرفت الدّار بعد توهّم؟. وكذلك أبياته, من قبيل: هلّا سألتِ الخيل يا ابنة مالكٍ إن كنتِ جاهلة بما لم تعلمِ*** يخبرك من شهد الوقيعة أنّي اغشي الوغي وأعفُّ عند المغنمِ. أو حتي قوله: ولقد خشيتُ بأن اموتَ ولم تدُر للحرب دائرة علي ابني ضمضمِ *** الشاتمي عرضي والسافكين إذا لم ألقهما دمي.
الشيء المحزن أن هذه المؤلفات بعد أكثر من ألف وثلاثمائة سنة من بعثة الحبيب الرسول صلي الله عليه وسلّم الذي قال لسيدنا معاذ: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم ؟ ” رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه .فحذر نبى الله سيدنا معاذ من اللسان فهو السب الرئيسى لدخول الناس الى النار ومما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حفظ اللسان انه قال ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ مابلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه , وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله , ما يظن أن تبلغ ما بلغت , يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) رواه النسائي فاحترس قد تكون الكلمة التى تخرج من لسانك سببا لغضب الله عليك وتستحق بها سخطه او قد ترضى الله عز وجل فيستحق بها جنته ورضاه .
نُسب لسيدنا عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه وأرضاه قوله: “متي استعبدتم النّاس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً”؟ وقوله : “تعلّموا من انسابكم ما تصلوا به أرحامكم”. وفي ذات السياق يبرز القول “أولي القربي أولي بالمعروف” وكذلك “أنذر عشيرتك الأقربين” وكذلك “قوا أنفسكم واهليكم ناراً وقودها النّاس والحجارة” وكذلك “وما يلففظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ”.
القاريء العزيز بعد كل هذا السرد أدعوك لقراءة كتاب “فتح دارفور سنة 1916م ونبذة من تأريخ سلطانها علي دينار للبكباشي حسن قنديل طُبع علي نفقة الامير عمر طوسون سنة 1356هـ – 1937م. الناشر: مكتبة الشريف الاكاديمية شارع الجمهورية.
هذه دعوة لمراجعة وتنقيح وتصحيح تاريخ السودان المجيد. هذا السودان الموحد في دينه ومشاعره بجميع إثنياته وقبائله. السودان الذي أنشأ دولة دينية عظيمة تآمرت عليها القوي الاجنبية وشراذم الإحتلال العالمية فأفشلتها ودمّرتها ولكنها عند الله باقية خالدة.
اعدّه المهندس/ إبراهيم عيسي البيقاوي – الخرطوم – في 31 يناير 2014م.