مررت بموقف صعب قبل سنوات طويلة، عندما كنت في مهمة رسمية في مدينة الفاشر عاصمة اقليم دار فور الذي تدور فيه حاليا رحى حرب ضروس،.. وكان الإقليم وقتها هادئا ووادعا، وكان حكم جعفر نميري في قمة عنفوانه وبطشه، وكما يحدث في المدن الصغيرة فقد احتضنني في المدينة عدد من الموظفين وضباط الجيش والشرطة ومسؤولي الحكومة المحلية، وكان مقررا ان أقيم في نزل حكومي ولكن الجميع اعتبروا ذلك «عيبا»: هل انت مقطوع من شجرة كي تقيم في مسكن حكومي خلال زيارة قصيرة للمدينة: ووجدت نفسي صباح مساء مع أصدقائي الجدد رغم انني لم اكن اعرف معظمهم من قبل، ورغم انني لم أكن قد حفظت أسماءهم،.. وذات مساء كنا في جلسة أنس فيها العديد من الوجوه التي ألفتها خلال تلك الفترة القصيرة واستفسرت عما اذا كان ممكنا ان يساعدوني في زيارة صديق لي كان سجينا سياسيا في سجن شالا الواقع على أطراف الفاشر، وأضفت بدون مناسبة انني سمعت ان مدير الأمن في المحافظة لئيم ومتغطرس، ومن ثم فإنني بحاجة إلى من يتوسط لي عنده كي أتمكن من زيارة صديقي، فقال شاب كان يجلس بالقرب مني إنه سيتولى امر الضابط اللئيم ويرتب لي زيارة صديقي، وبعدها بيوم او يومين ابلغني نفس الشخص ان ترتيبات اتخذت ليقوم صديقي السجين بزيارة المستشفى بزعم انه مريض، وان بإمكاني لقاءه في مكتب مدير المستشفى، وتمت الزيارة وجلست وصديقي المعتقل نحو اربع ساعات نتكلم ونأكل طعاما احضره لنا من رتب اللقاء، وقبل غروب الشمس بقليل قال صاحبي ان عليه ان يعود إلى السجن قبل موعد الطابور المسائي المخصص لحصر عدد المعتقلين، وهو إجراء معتاد صباحا ومساء في معظم السجون، وخرجنا من الغرفة التي كنا نجلس فيها لنكتشف ان المستشفى خال من الأطباء والمرضى بل لم نجد حارس السجن الذي رافق صديقي إلى المستشفى،.. وشعر السجين بالضيق والتوتر: كيف ارجع إلى السجن؟ هل أذهب اليه في سيارة تاكسي واقف عند الباب لأقول لهم: افتحوا لي كي ادخل فأنا معتقل سياسي؟ هل أذهب إلى مركز الشرطة لأبلغهم بانني سجين ولا أجد من يعيدني إلى السجن؟.. كان ما يشغل صاحبي هو الا يقع من رتب اللقاء بيننا في حرج ومساءلة،.. وبينما نحن في حيص بيص جاء ذلك الشاب الذي كان يجلس إلى جواري في تلك الأمسية ووعدني بتذليل الأمور مع ضابط الأمن «المتغطرس اللئيم»، فصافحه صديقي السجين بحرارة وخاطبه بلقب عسكري ثم شكره على ترتيب اللقاء معرضا نفسه للقيل والقال وربما الطرد من الخدمة!! وبدأت الصورة تتضح امامي، وبدأت بطني في إصدار أصوات تنذر بكارثة بيئية: كان ذلك الشاب هو مدير الأمن في المحافظة.. الرجل الذي وصفته باللؤم والغطرسة كان هو نفس الرجل الذي ترك معتقلا سياسيا في عهدتي بلا حراسة.. أدركت كيف نظلم أنفسنا وغيرنا بشهادات سماعية غير موثوق بها.. وأدركت أن ذلك الرجل الذي وصفه الآخرون باللؤم والغطرسة، كان أكثر مني نبلا وانسانية عندما لم يضمر لي شرا برغم كل ما قلته فيه أمام جمع غفير، بل ساعدني في تحقيق بغيتي.. ووضع حدا لتوتري وحرجي بقوله: ولا يهمك فرجل الأمن موصوم باللؤم والغطرسة «مهما سوى وفعل».[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]