تحدثنا في المقال السابق عن الخلاف السائغ المقبول غير المذموم وقلنا أنه أحد فرعي إختلاف التضاد ، واليوم نتحدث عن الفرع الثاني من خلاف التضاد ألا وهو الخلاف الغير سائغ وغير مقبول بل ومذموم ..
الخلاف الغير سائغ وغير مقبول شرعاً هو الخلاف في الأصول ، أي في العقائد ، وهو : ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً لا يُختلف فيه ، سواء أكان في الأمور الإعتقادية العلمية – وهذا أكثر أنواع هذا الإختلاف – أم في الأمور العملية الفقهية ، فإن كثيراً من مسائل الفروع – أي الأحكام – فيها نصوص من الكتاب والسنة والإجماع .
ْوقد وردت الكثير من الأدلة على ذم الإختلاف غير السائغ ، قال تعالى [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءاً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبُكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ] آل عمران 103 ، قال ابن كثير :” أمَرَهُمْ بالجماعة ونهاهم عن التفرقة .
وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالإجماع ، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{ إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تُنَاصِحوا مَن ولاّه الله أمركم ، ويسخط لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال } رواه مسلم .
ْقال تعالى :[ وَلَا تَكُونُوا كَالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاْخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ البَيّنَاتِ وَأُؤلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمْ ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمّا الذينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونْ ، وَأَمّا الّذِينَ اْبيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدونْ ] آل عمران ،، ذمّ الله في هذه الآية من خالف البيّنات ، ومن هنا كان تعريف هذا النوع من الإختلاف المذموم ، فإن البيّنات : إما نص من كتاب أو سنة أو إجماع وإما قياس جلي .
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : { تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة والإئتلاف ، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البِدع والإختلاف } رواه اللالكائي وابن أبي حاتم .
وقال البخاري – رحمه الله – :” إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود لقول النبي صلى الله عليه وسلم { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ } وقال أيضاً : إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد ” .
ورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها ما أخرجه الترمذي مصححاً من حديث الحارث الأشعري ، فذكر حديثاً طويلاً وفيه : { وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهن : السمع والطاعة ، والجهاد والهجرة والجماعة ، فإنّ من فارق الجماعة قَيْدَ شِبْرٍ فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه } رواه الترمذي .
وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية : ” عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد ” وفيها ” من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة “، والجماعة هم أهل الحل والعَقْد من كل عصر ؛ وقال الكرماني :” مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يُلزِم المُكلّف متابعة ما أجمع عليه المُجتهدون وهم أهل العلم “.
من كل ذلك نستخلص أن الخلاف المذموم في الكتاب والسنة المحكوم ببطلانه ورده هو ما خالف الوحي المنزل من عنده سبحانه ، وهو حبل الله ، وهو الكتاب العزيز .
وللخلاف المذموم أسبابه ومسبباته ومنها : – البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها ، والبغي هو الكِبْرْ المنافي للتواضع ، والتنافس على الرئاسة والوجاهة ، وسائر شهوات الدنيا ، قال رسول الله :{ إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد } رواه مسلم وأبو داؤد .
– الجهل ونقص العلم وظهور البدع واختلاف المناهج ، من أعظم أسباب الخلاف المذموم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا } رواه البخاري ومسلم .
– ظهور رؤوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم ، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة حين سأله عن الخير والشر ، فقال : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر … فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال رسول الله ” نعم ، دُعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها “، قلت يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال : ” هُمْ من جِلدتنا يتكلمون بألسنتنا } رواه البخاري ومسلم – قال ابن حجر : ” هم من جِلدتنا أي : من قومِنا ومن أهل لساننا ومِلّتنا ، ” وقال القابسي : معناه أنهم في الظاهر على مِلّتنا وفي الباطن مُخالفون ” .
– التعصب المذموم للأسماء والأشخاص وضعف الولاء على الكتاب والسنة وهذا هو السبب الرابع من أسباب الإختلاف وهو الأخطر تدميراً للعمل الإسلامي ، بل هو الذي جعل الكثيرين يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي جملة ، واعتبار الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة أحزاباً باطلة يجب التحذير منها وعدم الإنتساب لها والعمل من خلالها ، ولقد حذّرنا رسولنا الكريم من دعوى الجاهلية ، ولَمّا تنادى المهاجرون : يا للمهاجرين ، وتنادى الأنصار : يا للأنصار ، قال : ” ما بال دعوى الجاهلية ، دعوها فإنها منتنة “} رواه البخاري ومسلم .
إذاً لزم علينا أن يكون عملنا منضبطاً بالشرع بعيداً عن البدع ، وفي نفس الوقت لا نهدم الخير لوجود دَخَن فيه ، بل نعرف المعروف وننكر المنكر والدخن ، ونُعين على الحق ولا نُعين على سواه ، فهذه حقيقة الولاء على الكتاب والسنة ..
انتهى بفضل الله وحده
والحمدلله
. هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email]