الـخبير «حمد النيل عبد القادر» : إخفاقات في إدارة مورد النفط السوداني

[JUSTIFY]تم اكتشاف النفط في السودان تحت ضغوط سياسية واقتصادية كبيرة؛ وكان الهم الأول والرئيسي سرعة الإنتاج بغرض التصدير لإسعاف حالة الاقتصاد الصعبة التي كانت فاتورة استيراد النفط واحدة من أسبابها. أما الهم الثاني فكان العمل لتكرير النفط الخام لتوفير المنتجات البترولية لسد حاجة القطاعات الإنتاجية والخدمية والأمنية. وفي تلك الأثناء لم يتسع المجال للالتفات إلى كثير من متطلبات تأسيس قطاع نفط سوداني حسب المقاييس العالمية للصناعة. ومما زاد من تأخير وضع السياسات لتجنب الهدر والإفرازات السالبة، التدخلات المتكررة من جهات لا علاقة لها بصناعة النفط كانت تفتي وتقرر دون علم، بالإضافة إلى التوقعات الكبيرة غير المؤسسة وغير الواقعية من المواطنين ورجال الأعمال التي شكلت ضغوطاً ثقيلة على متخذي القرار من المختصين والمسؤولين.

ووسط فرحة الجميع بإنتاج النفط بعد ضيق ومعاناة، سادت بعض المفاهيم الخاطئة، بدأت صغيرة ثم تضخمت بفعل الزمن حتى أصبح أمر حلها عسيراً. فبعد إنتاج النفط مباشرة ظهر تيار قوي يدعو إلى دخول شركات وطنية في نشاط التوزيع والتسويق قبل أن تأخذ هذه الشركات حظاً كافياً من المعرفة الفنية والمهنية، وقبل أن تضع الدولة سياسة واضحة ومحكمة للتوزيع. ومن المتعارف عليه في صناعة النفط أن المعرفة الفنية تسبق الدعاوى الوطنية، بل إنه من الوطنية خلق شركات محلية بمعايير عالمية تؤهلها للمنافسة خارج البلاد.
عقبات امام الجهاز الرقابي .. عندما حاول الجهاز الرقابي القيام بدورة اتهم بالتعنت وعدم مساندة المستثمرين الوطنيين، الأمر الذي أدى إلى ارتخاء القبضة الرقابية، وبين يوم وليلة قفز عدد الشركات من أربع شركات إلى أربع وثلاثين شركة، مختلفة الأحجام والخبرات والأغراض والمواقع الجغرافية. وحسب المقاييس العالمية يعدّ هذا وضعاً شاذاً. فالهند التي يبلغ عدد سكانها (1.4) مليار نسمة تعمل بها أربع شركات توزيع فقط، ثلاث منها حكومية والرابعة من القطاع الخاص الهندي، ولكنها تعدّ من الشركات العالمية إذ إنها تعمل في كل مجالات الصناعة من الاستكشاف والإنتاج إلى التوزيع، فهي تمتلك نصيبها من الخام وتمتلك مصفاة للتكرير وتعمل في السوق الداخلي والخارجي.
عيوب صاحبت زيادة الشركات العاملة .. أمام هذا العدد الكبير من الشركات، لا أعتقد أن الجهاز الرقابي الذي هو المؤسسة السودانية للنفط سيكون قادراً على القيام بدوره كاملاً وكما ينبغي، لا سيما وأن حالة الوفرة التي تمتعت بها البلاد خلال العشر سنوات الماضية كانت تغطي على كثير من العيوب والنواقص، وستعقبها حالة من الندرة تستدعي أن يكون الجهاز الرقابي مستعداً لها.

في البداية كانت تعمل بالبلاد أربع شركات أجنبية هي: (شل، موبيل، توتال وأجب)، وكانت هذه الشركات ملتزمة غاية الالتزام بمعايير صناعة وتجارة النفط العالمية. وبما أنها فروع لشركات عريقة, كانت تجد كل الإسناد والدعم الفني من هذه الشركات للمحافظة على مستوى جيد من الخدمة للمستهلك والمحافظة على البيئة والصحة والسلامة، وتفادي الهدر وسوء الإدارة.
وقد أجرى الجهاز الرقابي في سبعينيات القرن الماضي دراسة، خرجت بأن العدد المناسب لشركات التوزيع التي يسمح لها أن تعمل في السوق السوداني في ذلك الوقت يجب أن لا يزيد عن شركتين مقتدرتين فنياً، وتحت إشراف جهاز رقابي حكومي قوي ينظم توزيع المنتجات البترولية بالطريقة المثلى.

وعندما فرضت الظروف دخول الحكومة في نشاط الإمدادات بشكل أوسع، تم شراء شركة (توتال) الفرنسية تحت مسمى شركة (النيل) لتوزيع وتجارة الزيوت، مع الاحتفاظ بالإسناد والدعم الفني من شركة (توتال) العالمية.. كل ذلك مع الإبقاء على الشركات الثلاث الأخرى .

لم يقصد بهذا الإجراء التأميم، وإنما قصد به نقل المعرفة والخبرة الفنية للكوادر السودانية، بالإضافة إلى ضمان وصول الإمدادات للقطاعات الإستراتيجية حتى لو تجاوز ذلك الهدف التجاري. وقد كانت هذه الشركة ولا زالت عوناً للجهاز الرقابي في جمع المعلومات للتخطيط لنشاط التوزيع والتنبؤ بالاستهلاك المستقبلي.
هذه اسباب تحميل الحكومة مسئولية حالات الشح في منتجات البترول ومما يجدر ذكره، أن المنتجات البترولية ملك للحكومة، وأن عبء استيراد الفرق بين الاستهلاك وإنتاج المصافي يقع على كاهل الحكومة. كما أن برامج التوزيع على القطاعات الإنتاجية والخدمية تعدها وتتابع تنفيذها الحكومة، وأن سعر البيع للمستهلك تحدده الحكومة. أما شركات التوزيع فتقوم بتوزيع هذه المنتجات لقاء مصاريف بيع وتوزيع تسمى الهامش، تدفعها الحكومة من سعر الشراء الذي يدفعه المستهلك. وبهذا المفهوم، فإن شركات التوزيع ما هي إلا وكيل للحكومة في توزيع منتجاتها، وهذا هو السبب في إيقاع اللوم على الحكومة في حالات الشح والاختناقات، وبالتالي فإنه من حق الحكومة قبول أو رفض الوكيل (الشركة) وطنياً كان أم أجنبياً حسب ما تراه ضرورياً لخدمة الإمدادات واستعداد الشركة لتنفيذ السياسات.

إن مفهوم الوكالة بين الحكومة والشركات من جهة، والشركات ووكلائها (محطات الخدمة ووكلاء الغاز) من جهة أخرى، قد أصابه كثير من الخلط والاضطراب، ومن ثم التعقيد، والسبب في ذلك تلاشي الفهم الصحيح لإدارة مورد النفط كمورد خاص.
إذا ألقينا نظرة للسوق المحلي للمنتجات البترولية نجده لا يحتمل هذا العدد الكبير من الشركات، فإذا تم توزيع هذا السوق عليها نجد أن نصيب كل شركة منه لا يغطي التكاليف المفترضة إذا التزمت هذه الشركة بالجوانب الفنية لتجارة البترول. لقد شهدنا خروج الشركات الأجنبية الملتزمة بالمعايير من السوق لهذا السبب، إذ إن ربحية الشركات أصبحت خصماً على حساب الأداء المطلوب. ومن جانب آخر تجد المؤسسة السودانية للنفط (الجهاز الرقابي) صعوبة في تحديد التكلفة الحقيقية لنشاط التوزيع التي يبنى عليها تحديد هامش الشركة. والسبب في ذلك اختلاف مراكز التكلفة وعناصرها بسبب اختلاف الشركات في أحجامها وأغراضها والتزاماتها وتركيزها على مناطق أنشطتها جغرافياً، وفي بعض الأحيان صعوبة الحصول على الدفاتر المعدة بالطرق المحاسبية المعروفة. وإذا حاولت المؤسسة احتساب متوسط التكلفة نجد كثيراً من المفارقات، فالشركات التي تكلفتها الحقيقية بسيطة ستتمتع بمجال أوسع في الهامش، الأمر الذي أدى إلى ممارسة ظاهرة (الكسر)، أما الشركات الملتزمة فلن يسعفها الهامش في تغطية تكاليفها، فإما أن تلجأ إلى تخفيض تكاليفها على حساب الأداء وإما أن تخرج من السوق.

ومن المسائل ذات الاهتمام لدى المؤسسة، استرداد قيمة المنتجات في الوقت المناسب بعد عمليات البيع. وبما أن الشركات لا تملك رأس مال عامل لتغطية قيمة المنتجات، فإنها تعطى فترة سماح تمكنها من استرداد هذه الأموال من زبائنها المنتشرين في القطر أو الذين لا يملكون المال اللازم الذي يمكنهم من الدفع نقداً كالمزارعين مثلاً. ولكن ذلك لا ينفي أن الشركات تتسلم مبالغ مقدرة نقداً من مبيعاتها للجمهور في العاصمة والمدن الكبيرة، إذ إن بعض الشركات تركز فقط على العاصمة ولا تخدم المناطق البعيدة والقطاعات.

لقد ثبت أن كثيراً من الشركات لا تلتزم بالدفع بعد فترة السماح مما ترتب عليه مديونيات بمبالغ كبيرة، وتأخير الدفع أسبابه كثيرة أهمها عدم وفاء زبائنها الحكوميين بالسداد، وسبب آخر هو استخدام بعض الشركات وبعض زبائنها لهذه الأموال في تمويل مشاريع أخرى لا علاقة لها بالبترول. وللحد من هذه الظاهرة، وتحت ضغوط من وزارة المالية، لجأت المؤسسة لمطالبة الشركات بدفع قيمة المنتجات البترولية نقداً. وبذلك تكون الشركة قد امتلكت البضاعة، وفي ذلك ميل عن مفهوم الوكيل أو الموزع. أما إذا اضطرت المؤسسة اضطراراً لاتخاذ هذا القرار، فعليها أن تدعمه بنظام رقابي قوي ونظام للتوزيع يضمن وصول المنتجات البترولية للقطاعات الإنتاجية. وفي غياب ذلك النظام قد يؤدي القرار إلى ممارسات ونتائج أمنية واقتصادية سالبة، فقد تضطر الشركة للبيع لمن يملك المال بغض النظر عن أولويته في الاقتصاد.. فمثلاً قد لا تصل المنتجات البترولية للمزارعين بالأسعار المناسبة والكميات المطلوبة وفي المواقيت المناسبة للعمليات الزراعية، أو قد تذهب إلى جهات لها الاستعداد للدفع بأعلى الأسعار لمقاصد تهدد أمن وسلامة البلاد، أو قد تتسرب إلى دول الجوار بأسعار عالية، أو قد يغري ذلك بعض التجار لتوظيف أموالهم في تجارة البترول خارج النظام.

أما إذا ألقينا نظرة في توزيع الغاز، فنجد أن نظام الوكالة الحالي ليس بالنظام المثالي لخدمة المستهلك من حيث الأسعار أو سهولة الحصول على الغاز. كما أنه يجعل الوكلاء في مواجهة دائمة مع الجهاز الرقابي.

إن كميات الغاز المستهلك في القطر تعدّ قليلة إذا قارناها بالمنتجات البترولية الأخرى، فمثلاً يبلغ استهلاك الجازويل (الجازولين) حوالي سبعة آلاف طن في اليوم، في حين أن استهلاك الغاز لا يتجاوز ألف طن في اليوم، ولا نجد إشكالاً في توزيع الجازولين كما نجده في الغاز، علماً بأن الحكومة تعطي هامشاً مشجعاً للغاز وفق سياسة تعميم استهلاكه بهدف مكافحة التصحر.
بدأ استهلاك الغاز في أول عهده محدوداً ثم أخذ في التوسع، فاتخذت الشركات وكلاء لتوزيعه، وكان الوكيل مسؤولاً مسؤولية مباشرة لدى الشركة ولا علاقة له بالحكومة إلا في إطار مسؤولية الشركة لدى الحكومة. وبهذا الفهم يقوم الوكيل بتوزيع أنابيب الشركة فقط، ويظل مسئولاً من خدمة الجمهور وملتزماً بالسعر المعلن وعدم إخفاء المنتج بعد توفيره من الشركة. وكانت الأنابيب تصان وتستبدل بنظام ثابت خاضع لرقابة الحكومة ومحترم من قبل الشركات.

كانت للوكيل مواصفات تضمن حسن أدائه، كما كانت لمحال البيع مواصفات تحسب عليها التكلفة.. أما المسافة بين محال البيع فقد كانت محسوبة حتى لا تؤثر المنافسة سلباً على المبيعات، ولا يسمح التصديق لوكيل في منطقة لا تستهلك أقل من مائة أنبوبة في اليوم، حرصاً على تغطية التكاليف وتحقيقاً للربحية حتى لا يضطر الوكيل إلى رفع السعر لتغطية التكاليف.

إذا نظرنا إلى وضع توزيع الغاز حالياً، نجد أن مسؤولية الشركة تجاه الوكيل قد ضعفت، وأن أنابيب الغاز المملوكة للشركة تباع في أسواق (الأحد)، وأن محال الغاز تتفاوت في أحجامها وأشكالها ومواقعها العشوائية. أما الوكلاء فقد أصبحوا أنواعاً من حيث حجم العمل، كما أصبحوا تجاراً لكل أنواع الأنابيب، الأمر الذي أبعد الوكيل عن مسؤولية الشركة، بل أصبح الوكلاء كياناً قائماً بذاته ومصدراً للضغط على الجهاز الرقابي. ولا ننسى أيضاً أن الاضطراب شمل نظم التعبئة ووسائل الترحيل من المستودعات إلى الوكلاء.

ومن المشاكل التي تواجه الشركات والوكلاء، عشوائية الرسوم التي تفرضها الولايات والمحليات دون علم المؤسسة السودانية للنفط المسؤولة عن حساب التكلفة، ويصعب إلغاء هذه الرسوم لصدورها بقوانين من المجالس التشريعية.

كل ذلك جعل من العسير على الجهاز الرقابي تحديد التكلفة الحقيقية التي يمكن الاتفاق حولها مع الشركات ويحتكم بها في تحديد سعر البيع، والتكلفة التي تتفق حولها الشركة مع الوكيل، بل أصبحت الشركة تعطي وكلاءها هوامش مختلفة، مما جعلهم يستنجدون بالمؤسسة في كثير من الأحيان.

هذا هو الحال، الذي تضافرت في خلقه ظروف وعوامل متشابكة، أهمها عدم الفهم العام لصناعة النفط وتجارته.. وما ذكر مطروح بقصد الإصلاح كما هو ظاهر من عنوان الموضوع، ولكن قبل ذلك لابد من الاتفاق حول بعض النقاط الأساسية.

النقطة الأولى والمهمة، هي أن تفهم الجهات السياسية والتشريعية والتنفيذية والمواطنون أن النفط مورد ذو خصوصية، يجب أن يدار بطريقة خاصة متعارف عليها عالمياً، والانحراف عن هذه الإدارة يعود على الاقتصاد بالخراب والدمار.

النقطة الثانية، أن النفط شأن لدولة وليس همّ وزارة النفط فقط، كما يجب أن لا ينظر إليه كمورد يعتمد عليه ربط وزارة المالية وإدارتها المختلفة، بل من الضروري أن يعطى أولوية للصرف على بنياته الأساسية من مصافٍ وخطوط أنابيب ومستودعات وبناء قدرات.

إن النقطتين المذكورتين أعلاه تصبان في مفهوم تأمين الطاقة الذي أصبح من ضرورات الأمن القومي، وتنأيان بالنفط عن رغبات التكسب والبحث عن فرص الثراء.

ولكي تتدارك وزارة النفط والمؤسسة السودانية للنفط المشاكل الوشيكة التي ستواجه قطاع الإمداد والتوزيع، عليها الاستهداء بتجارب الدول الأخرى ذات النظم الحديثة والفعالة في توزيع المنتجات البترولية، واستجلاب خبراء من هذه الدول، ووضع نظام جديد وتدريب العاملين عليه.
وإلى حين ذلك لابد من الإسراع بالتدابير التالية: } إيقاف دخول شركات جديدة في مجال التوزيع.
} وضع حد أدنى للمتطلبات والمعايير الأساسية تراجع عليها الشركات الحالية، وفي حالة عدم التزامها بها يسحب منها الترخيص.
} تشجيع الشركات على الاندماج في شركات كبيرة.
} تفعيل اللوائح والنظم التي وضعت مسبقاً للإصلاح.
} العمل مع السلطات التشريعية لإزالة التضارب في القوانين والتشريعات التي تمس قطاع النفط.
} استبدال نظام توكيلات الغاز الحالي بنظام فعّال تسهل مراقبته، وذلك في المدن الكبيرة على أقل تقدير، مع الاستفادة من الوكلاء الحاليين.
وأخيراً.. أرجو أن أوضح أن ما ذكر ما هو إلا مقدمة لحوار ونقاش، يسعى للاتفاق حول فهم عام بغرض الإصلاح.

صحيفة المجهر السياسي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version