عبد الوهاب الأفندي : حديث في تركيا عن الطائفية والحضارة الإسلامية الحاضرة الغائبة

[JUSTIFY]كنت مرة اخرى في زيارة خاطفة إلى عاصمة الخلافة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وذلك لتقديم المحاضرة الرئيسة في مؤتمر عقدته جامعة اسطنبول مدينة (الحضارة) تحت عنوان المؤتمر الدولي حول الحضارات. وقد تعاقب على الحديث في المؤتمر أكاديميون من اليابان واستراليا إلى كندا والولايات المتحدة، وكثير مما بينهما، وهم يتداولون النقاش حول فكرة الحضارة، والنظريات حول نشأة وصعود واندثار الحضارات.

وبالطبع كان هناك حديث عن الحضارة الإسلامية، ونقاش محتدم حول مفهوم صراع الحضارات وتلاقيها وتلاقحها. ولم يكن الحوار ليكتمل بدون الحديث عن الحضارة العثمانية وعن الهوية التركية الحديثة المتنازعة بين الجذور الإسلامية وتطلعات الانتماء الأوروبي.

ولكني اخترت في محاضرتي أن أتناول التهديد الذي يمثله الاستقطاب الطائفي القائم لما بقي من الحضارة الإسلامية التي ظلت تواجه خطر الاندثار لقرون عبر التحلل الداخلي وفقدان إمكانيات الإبداع، ومن الغزو الأجنبي والضعف الاقتصادي. ولكنها تقترب الآن من التدمير الذاتي عبر صراعات عبثية مدمرة، اكتسبت بعداً غير مسبوق من العدوانية وقابلية الخراب بما عجز عنه أشرس الأعداء. فما تشهده سوريا اليوم من تخريب ذاتي لم يقدر عليه من قبل لا المغول ولا الاستعمار ولا إسرائيل، ولا الجوائح الأخرى من طاعون وزلازل، حتى جاء طاعون العصر فقضى عليها.

وكان الصحافي الأمريكي المعروف سيمور هيرش ابتكر عبارة خيار شمشون لوصف البرنامج النووي الإسرائيلي، وذلك إشارة إلى استلهامه سيرة البطل اليهودي شمشون الذي يعتبر رائد العمليات الانتحارية في التاريخ. فمثلما دمر شمشون المعبد فوق رأسه ورؤوس أعدائه، فإن أي استخدام للأسلحة النووية من قبل إسرائيل سيعني أيضاً أن كل شيء سوف ينهار على رأس إسرائيل ومن حولها. فهذه أيضاً سياسة انتحارية تذكر كذلك بسياسة التدمير المتبادل المؤكد المتبعة من قبل الدول العظمى خلال الحرب الباردة وما تزال، والتي يرمز لها بالتعبير المختصر ماد (أي مجنون بالانكليزية، اسماً على مسمى).

وهناك مدعاة للتأمل في هذه الأنواع من الجنون، لأنها لا تختلف كثيراً عن مسلك الأفراد الذين ينتطقون القنابل ثم يفجرون أنفسهم وأعداءهم على الطريقة الشمشونية، سوى أن الانتحاري يعتقد (مخطئاً كان أم مصيباً) أنه في طريقه إلى الجنة. وهذا يجعل تصرفه عقلانياً من وجهة نظره. أما تصرف الدول والحضارات الانتحارية فهو خال تماماً من أي عقلانية، لأنه يعني الدمار ولا شيء غيره.

وهذا يعيدنا إلى قضية الوضع الانتحاري القائم للأمة الإسلامية، حيث نراها تهرول مسرعة على منحدر مؤد إلى الهلاك، بدءا بالاستقطاب الطائفي، ثم التطرف من الجانبين، وأخيراً نحو مواجهة بين المجموعات والأنظمة الانتحارية باتجاه خيار شمشون، حيث يدمر كل نفسه والآخر، ثم يدمر ما بقي من بيضة الإسلام.

والطائفية بكل أنواعها، مثل بقية العصبيات الأخرى من قبلية وعرقية، هي دعوى من دعاوى الجاهلية، حتى حين تتلبس بلبوس الإسلام، بل خاصة حين تتلبس لبوس الإسلام، وقد ساوى القرآن بين التعصب الديني وبين الشرك، كما جاء في قوله تعالى في سورة الروم: ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون. فليس العيب في القوم أنهم ضلوا تماما عن الحق، وإنما لتمسك كل منهم بجانب فقط من الحق، كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، فصدق فيه قوله تعالى: أولئك هم الكافرون حقاً.

فمن عجب أن يكون الناعقون باسم الدين هم أهل الضلالة، وإن كانت تلك سنن السابقين من المتنطعين من أتباع الديانات السماوية السابقة، حيث رمى بهم تمسكهم بجانب فقط من الحق، والغلو في الدين، إلى مهاوي الضلالة، فروح التعصب تعمي الإنسان عن الحق، وتزين له باطل عمله فيراه حسناً، ويضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه ممن يحسنون صنعاً.

في هذا الإطار لا يمكن الحديث عن حضارة طائفية، لأن الحضارة لا يمكن أن تكون طائفية منغلقة. وما من حضارة كانت تستحق الاسم إلا وقامت على قاعدة من تعددية الأعراق وحرية المعتقدات. فلم نسمع بحضارة كالفينية أو بروتستانتية، مثلاً، ولا بحضارة سنية أو شيعية، وإنما عرفت الحضارة (أو الحضارات) الإسلامية بكونها أظلت أوسع تكتل بشري في التاريخ الإنساني، وأكثره تنوعاً في الأعراق والثقافات والمشارب، شمل أقواماً من أدنى الصين إلى أعماق افريقيا، ومن الأندلس إلى القوقاز، وكلهم استظل بظلها، وساهم في بنائها.

أما الحضارات (مجازاً) التي تبنت الإقصاء أو الفرز العرقي، كما كان شأن فرعون وقومه، فإنها تعرضت لخراب ودمار مستحق بغضب سماوي، بينما أثاب الله ضحاياها فجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.

وعليه فإن ما نشهده اليوم من إذكاء للفتن الطائفية وإيقاد لأوارها هو مهلكة دينية من ناحيتين: أولاً من جهة كونها تفريقاً لدين الناس شيعاً، يتمسك كل طرف بجانب من الحق فيه يخلطه بباطل كثير، فيقع في المحذور الديني، اقتراباً من الشرك، وكفى به إثماً مبيناً. وثانياً، تقع الفئات المتورطة في البغي والفرز والتطهير الطائفي تحت طائل سنة الله التي تعاقب المجرم بالهلاك، وتجعل ضحاياه هم الوارثون. وليس مستبعداً أن نشهد هلاك الطائفتين جزاءً وفاقاً.

لكل هذا فإن الحديث عن حضارة إسلامية في هذا المقام لا محل له من الإعراب، لأنه لو كانت لدينا حضارة بالفعل لما وقفنا عاجزين عن وقف هذا التدمير الذاتي، ولما سكتنا عن تشريد الملايين من السوريين (ومن سبقهم وتبعهم العراقيون ومن يدري من يتبع) كما سكتنا من قبل عن تشريد الفلسطينيين، بل ساهمنا فيه. ولعلها آيات هذا الزمان أن يموت الفلسطينيون جوعاً وحصاراً في قلب عاصمة عمر بن عبدالعزيز، وما يسمى بالأمة الإسلامية تتفرج. والأدهى من ذلك، أن أصحاب هذه الحضارة يراوحون بين لوم الأجانب على هذه الجرائم التي يجترحون، وبين التوسل إلى هؤلاء الأجانب لحل الأزمة نيابة عنهم (في جنيف وموسكو وباريس، وليس في مكة أو المدينة أو القاهرة). فلا تصح تسمية حضارة في حق من هم عالة على غيرهم، أخلاقياً وعملياً.

نحن إذن نرى أمة تنقسم بين من يرون قتل النساء والأطفال، وتجويع وتشريد الأبرياء، والتعذيب والظلم هو ما أمر الله به، وهو عنوان نهضة جديدة للدين وبعث له يرضي الأئمة الصالحين، وبين من يرون التخاذل عن نصرة الأبرياء والتفرج على عذاباتهم، مع إيكال مهمة الدفاع عنهم إلى عصابات مارقة أو دول خارجية هو غاية الهمة ومنتهى الآمال. وقبل ذلك ما ضيعنا فلسطين، بل ضيعنا العالم الإسلامي كله. فليس الفرق بين فلسطين وبقية الدول العربية إلا أن معظم أهل فلسطين مشردون خارجها، بينما البقية معظمهم مشردون في الداخل. وليست نكبات العراق وسوريا والسودان والجزائر أقل بكثير من أم النكبات تلك.

وعندما ظهرت بوادر صحوة عربية شعبية ألهمت العالم كله وأعادت للأمة بعضاً من كرامتها الضائعة، تكالبت داخل الأمة عناصر شر كامنة فيها لتنقض على هذا الأمل وتعيدنا إلى المربع الأول، بل إلى مرحلة أحط من سابقاتها. وهذه المرة لا يمكننا اتهام الاستعمار بأنه هو الذي أجهض الوثبة وأهدر الآمال. بل بالعكس، نجد عناصر الإجرام التي انقضت على الثورات تتهم الاستعمار بأنه هو الذي حرر الأمة من قبضة الدكتاتوريات الآثمة. والحقيقة هي أن الأمة نهضت من عقالها بقدراتها الذاتية، ولكن بعض هذه القدرات الآن تصادر وتستخدم ضدها. فالجيوش التي أعدت بشق الأنفس للدفاع عن كرامة الشعوب تستخدم اليوم لقتلها وإخضاعها وإذلالها، والأموال التي أفاء الله بها على الأمة من كد الشعوب ونعم الأرض والسماء تصرف على السجون والقنابل المسيلة للدموع والقيود والجواسيس والسفلة، بدل أن تنفق على التعليم والتصنيع وتشغيل الأيدي العاطلة، أما الإعلام المفترض فيه التعبير عن صوت الشعوب، فقد أصبح يستخدم قنابل للقصف المكثف بكل فحش وكذب وتضليل.

إننا اليوم في حالة سقوط مخجل، وانحطاط لا سابقة له، وردة إلى ما دون الجاهلية الأولى. هذه أمة تدمر نفسها، وتخون دينها وقيمها، وتتسابق على الباطل وتنفر من الحق، وتتعاون على الظلم والإثم والعدوان وتعرض عن التقوى وكل بر. وفي هذا الإطار فإن الحديث عن حضارة إسلامية تتحاور مع الحضارات الأخرى هو أشبه بالمهزلة، ومما يضحك ربات الخدور البواكيا. فكيف نذهب إلى ساحة حوار حضاري وأيدينا ملطخة بدماء نسائنا وأطفالنا، كما هي صورة البرابرة النمطية في أذهان ومخيلة الكل؟ كيف نحاور الآخرين ونحن لا نخاطب بعضنا إلا بالسيوف والحراب؟ كيف نتحدث عن الحضارة أصلاً ونحن نعيش هذه البربرية، وتفيض ألسنتنا وإعلامنا بكل ما هو فاضح ومخجل ومؤذ للسمع والبصر والنفوس؟

ختمت حديثي في اسطنبول بالإشارة إلى مقولة ذات مغزى تنسب للمهاتما غاندي حين سأله سائل: ما هو قولك في الحضارة الغربية؟ فأجاب: إنها ستكون بالقطع فكرة جيدة! وأضفت قائلاً: وأنا كذلك أن وجود حضارة إسلامية معاصرة سيكون بالقطع فكرة ممتازة تستحق السعي من أجل إيجادها.

ولا شك أننا بالفعل في حاجة وقفة تأمل مع النفس، والتفكر عن مسؤوليتنا عما آلت إليه أمورنا.

القدس العربي
د. عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

[/JUSTIFY]
Exit mobile version