وكانت الحرب الأهلية التي دارت في الفترة من 1990 – 1993 بين القبيلتين راح ضحيتها (800) ألف قتيل.
وقامت الحرب على خلفية تداعيات انحياز المستعمر البلجيكي لقبيلة التوتسي (20% من تعداد سكان البلاد) على حساب قبيلة الهوتو (80%)، فيما ركّزت الكنيسة جهودها على فصيل دون آخر، فأصبح مثلا الهوتو كاثوليك والتوتسي بروتستانت كما أصبح التوتسي أنفسهم أنجلوفون، والهوتو فرانكفون، وتركّز التعليم والسلطة في أيدي أقلية ممثلة في التوتسي.
صحيح أن الصراعات القبلية تكاد تكون ثقافة أفريقية متوارثة، إلا أن التدخلات الأجنبية تزيد من اشتعال أوارها، بل تحول دون عمل آليات التهدئة التقليدية.
لقد ساد أفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول، قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها، أما النمط الثاني، فقبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعا أو كرها، وبعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال وتبادل السلطة في أفريقيا.
” الصراعات القبلية تكاد تكون ثقافة أفريقية متوارثة، إلا أن التدخلات الأجنبية تزيد من اشتعال أوارها، بل تحول دون عمل آليات التهدئة التقليدية “.
بعض أبناء القارة من المتعلمين كتبوا مشيدين بتلك النظم التقليدية، وكان ذلك بدافع الرد على نظرائهم من المستعمرين الذين حاولوا إيجاد مبررات أخلاقية للاستعمار مثل جون استيوارت ميل الذي كان يرى الاستعمار من باب الحسنات، أين ما وجد الاستبداد في الحكم وهو أمر وصمت به النظم السلطوية التقليدية في أفريقيا زورا وبهتانا في نظر أبنائها.
ولذا كتب رئيس كينيا السابق جومو كينياتا مؤلفه الشهير (في مواجهة جبل كينيا) ليُبيّن عبره ما أسماه “ديمقراطية جماعة الكيكيو” التقليدية وهي في رأيه ديمقراطية سحقها الاستعمار.
وهناك قناعة راسخة لدى الكثيرين بأن التخلف السياسي الذي تعيشه القارة اليوم ليس إلا نتاجا لتراكم أوضاع تاريخية مرتبطة بدخول الاستعمار.
بالطبع لا يمكن الجزم بأن النظم السياسية التقليدية في أفريقيا ما قبل الاستعمار كانت نظما ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث، لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة ولم تنتج عنها الإشكاليات الماثلة.
خلفيات الصراع الجنوبي
يشير الواقع في دولة جنوب السودان إلى أن الدولة التي يبلغ تعدادها نحو عشرة ملايين نسمة تتألف من ستين مجموعة قبلية أكبرها مجموعة الدينكا التي ينتمي إليها رئيس الدولة سلفاكير ميارديت، ويبلغ تعداها نحو أربعة ملايين نسمة أي إنهم يشكلون نحو40% من مجمل تعداد السكان، وهي ثاني أكبر قبيلة في أفريقيا بعد الزولو في جنوب أفريقيا.
وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية من حيث التعداد، إذ يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة.
ويشار إلى أن الصراع بين القبيلتين صراع ليس بالجديد، بل هو صراع زعامة على الأرض والموارد، له امتدادات تاريخية معلومة.
وقد راعى نظام الحكم الوليد هذه التركيبة، وهو نظام حكم يوصف في دستور البلاد بأنه نظام رئاسي، جمهورية فدرالية، ديمقراطية تمثيلية.
وعليه فقد تواضعت النُخبة الحاكمة وهي الحركة الشعبية -الحزب الحاكم- على أن يكون رئيس البلاد من قبيلة الدينكا ونائبه من قبيلة النوير فيما يتم تقسيم كيكة السلطة على القبائل الأخرى بنسب تراعي أوزانها القبلية.
هذه المعادلة السياسية جنبت البلاد صراعا قبليا كان يمكن أن يحدث بُعيد الاستقلال عن السودان في يوليو/تموز 2011.
وسيظل الحل المتاح في الوقت الحاضر لتجنيب البلاد حربا أهلية طاحنة في ظل الثقافة القبلية المتحكمة تحقيق هذه المعادلة السياسية التي تستوعب الأوزان القبلية، حتى يحدث الله أمرا كان مفعولا، وتتبدّل هذه الثقافة إلى ثقافة مدنية تستوعب الآخر في إطار تنوع وتبادل ديمقراطي للسلطة.
على سلفاكير أن يقبل مشار نائبا له ويدرك خطأ إقالته له، وعلى مشار كذلك ألا يتطلع لمنصب رئيس الدولة ويقبل بمنصب نائب الرئيس ويدرك خطأ إعلانه الترشح لرئاسة الدولة منافسا لسلفاكير.
ورغم أن الصراع يعتبر في بداياته وسط جهود دولية وإقليمية حثيثة لاحتوائه فإن آثارا كارثية قد أطلت برأسها، حيث بدأت تتضح صورة الدمار الذي خلفه الاقتتال بين الطرفين إذ ظهرت الجثث ملقية في شوارع المدن المختلفة بما في ذلك العاصمة جوبا.
وأظهرت صور صحفية حجم الدمار الذي تعرضت له المنازل والأسواق في مدن “مايوم” بولاية الوحدة الغنية بالنفط و”بور”، عاصمة ولاية جونقلي التي حولها قتال عنيف.
وتشير المعلومات الصحفية إلى مقتل حوالي (2000) مواطن جنوبي وفرار نحو (200) ألف شخص من مناطقهم.
ورطة الخرطوميعتبر السودان الذي انفصلت عنه دولة جنوب السودان في ورطة حقيقية جراء الأحداث المتصاعدة هناك، إذ لا شك أن آثارا مدمرة ستخيم عليه في حالة استمرار الصراع في الجنوب الذي يرتبط مع الخرطوم بحدود طويلة جدا تبلغ نحو 1800 كيلومتر، وهي حدود تتداخل فيها القبائل على نحو شديد التعقيد.
وبالتالي فإن قيام حرب أهلية في الجنوب يعني تدفق اللاجئين شمالا وكذلك تدفق السلاح ويشكل ذلك بيئة مواتية للحركات المتمردة التي ترفع السلاح في وجه حكومة الخرطوم، فضلا عن تضرر التجارة الحدودية حيث يصدر السودان أكثر من 175 سلعة إلى جنوب السودان، كما سيفقد السودان عائدات مرور بترول الجنوب عبر خط الأنابيب الذي ينتهي في أقصى شمال شرق السودان على البحر الأحمر.
وبالفعل تدهور الإنتاج نحو (20%)، وجاءت زيارة الرئيس عمر البشير لجوبا بعد ارتباك واضح مثّل سمة بارزة لتعاطي الخرطوم مع الأزمة بعد مرور عشرة أيام من اندلاعها.
” على سلفاكير أن يقبل مشار نائبا له ويدرك خطأ إقالته له، وعلى مشار كذلك ألا يتطلع لمنصب رئيس الدولة ويقبل بمنصب نائب الرئيس ويدرك خطأ إعلانه الترشح لرئاسة الدولة منافسا لسلفاكير ” .
وقد حسمت الزيارة موقف الخرطوم من طرفي النزاع ولم تعد تلتزم الخرطوم بسياسة تبقيها على مسافة واحدة من الأطراف الجنوبية المتصارعة حتى تكون في وضع يمكنها من التوسط بين المتصارعين.
وعقب زيارة البشير راجت أخبار شبه رسمية وعلى نطاق واسع تشير إلى توقيع جوبا والخرطوم اتفاقا يقضي بنشر قوات مشتركة بين البلدين لحماية مواقع إنتاج النفط في الجنوب، لكن وزارة الخارجية السودانية نفت ذلك على نحو خجول وأعلنت أن الاتفاق مع جوبا كان فقط على إرسال تسعمائة فني لسد النقص الحاد في مواقع إنتاج البترول بعد سحب شركات البترول العالمية موظفيها جراء النزاع.
صحيح أن للسودان اتفاقا مماثلا مع جارته الغربية تشاد نجح في كبح جماح حركات تمرد دارفور التي كانت تنطلق من تشاد، لكن يبدو أن المسرح في دولة الجنوب يختلف كليا عن المسرح في تشاد، وبالتالي يصعب نسخ تلك التجربة في دولة جنوب السودان للتباين الكبير في الأسباب والمسببات.
لقد ظل الجيش السوداني يحارب المتمردين في جنوب السودان قبل الانفصال لأكثر من خمسين عاما بين الأدغال والمستنقعات دون أن يحقق نصرا حاسما عليهم وانتهى الأمر إلى توقيع اتفاقية سلام في 2005 أفضت فيما أفضت إلى فصل الجنوب.
وقال البشير في جوبا التي زارها لأول مرة كرئيس أجنبي مشاركا في احتفال الجنوبيين بتحقيق الاستقلال عن الشمال: (إن لم يحقق الانفصال السلام للشمال سنكون قد حققنا أكبر خسارة، إذ إن الشمال دفع ثمن انهيار الوحدة بين شطري الوطن الواحد مهرا للسلام).
وإن صدقت أنباء ذلك الاتفاق فإن الجيش السوداني سيعود مجددا للمستنقعات الجنوبية بدعوى حماية حقول النفط، والسؤال المُلح جدا هل فقدان السودان لعائدات رسوم عبور النفط الجنوبي (5% من موارد البلاد) بسبب الاقتتال القبلي الذي بدأ في الجنوب، تستحق أن يتورط الجيش السوداني في صراع الأخوة في الجنوب؟
وهل يستطيع أن يحقق انتصارات بجانب طرف جنوبي ضد طرف جنوبي آخر؟ وهل تمكن الجيش السوداني من القضاء على التمردات الداخلية خاصة في دارفور حتى يعبر الحدود ليقوم بمثل هذه المهمة المستحيلة؟
لا ينبغي أن يقود القلق الذي أمسك بتلابيب الخرطوم بسبب الاقتتال الجنوبي الجنوبي إلى مثل ذلك الخيار المكلف، وطالما رمت الخرطوم بثقلها إلى جانب الرئيس سلفاكير وفي ذلك خطأ إستراتيجي في رأي البعض، عليها أن تحصر دعمها في جوانب غير عسكرية.
بعد مرور أكثر من عامين على الانفصال بدا الوضع في الجنوب كارثيا ولم تتحقق أي مكاسب سواء للجنوب أو الشمال، حينها قالوا إن انفصال الجنوب سيوقف حربا استمرت لأكثر من خمسين عاما، وقالوا إن الانفصال وقد تم بطريقة حضارية وبوفاءٍ فريد لا تعرفه السياسة الدولية، سيُكسب الخرطوم احتراما دوليا وسيجعل واشنطن تطبع علاقاتها مع الخرطوم وتلغي العقوبات الاقتصادية وترفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
بيد أن الخرطوم حصدت هشيما فيما لم تسعد جوبا لا بالأمن ولا بالسلام ولا برفاهية اقتصادية.
واشنطن على الخط
على النقيض من السودان فقد ألقت واشنطن بثقلها خلف مجموعة مشار المتمردة، والنوير الذين ينتمي إليهم مشار يقطنون في مناطق إنتاج البترول، بينما مناطق الدينكا الذين ينتمي إليهم سلفاكير لا يوجد بها بترول حتى الآن.
وتبدّى موقف واشنطن المنحاز من الصراع في عدة مواقف سياسية، ففيما يصر سلفاكير على توصيف ما حدث باعتباره انقلابا عسكريا على سلطته المعترف بها دوليا في محاولة منه لإرسال رسالة للمنظمات الدولية التي لها مواقف مبدئية ضد الانقلابات العسكرية، تؤكد مسؤولة في وزارة الخارجية الأميركية أنه لا يوجد دليل لدى واشنطن على وقوع محاولة انقلاب.
وفي حين يرفض سلفاكير شرط مشار بإطلاق المعتقلين السياسيين المؤيدين له لتوقيع اتفاق سياسي، دعا مجلس الأمن الدولي الذي تتحكم فيه واشنطن سلفاكير إلى الإفراج عنهم بدعوى دعم الجهود الرامية لإنهاء الصراع المحتدم.
وحرص المبعوث الأميركي الخاص دونالد بوث على لقاء مشار المستعصم بالأدغال في مكان لم يعلن عنه، وقال بوث إنه سيواصل الضغط لإطلاق سراح المعتقلين المرتبطين بمشار.
” الموقف الأميركي الانتهازي له علاقة وثيقة بحرب الموارد في أفريقيا، فالبترول الجنوبي تتحكم فيه الصين التي تواجه منافسة شرسة من الولايات المتحدة على موارد القارة الأفريقية لا سيما النفط ” .
في الوقت نفسه يقول الممثل الأميركي الشهير، جورج كلوني والذي يمتلك قمرا اصطناعيا مخصصا لمتابعة الأوضاع في السودان وجنوب السودان، “نحن نحتفظ بمواقفنا لكن القوات الحكومية تقصف مناطق المدنيين”، وهي محاولة للضغط على سلفاكير واستثارة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
إن الموقف الأميركي الانتهازي له علاقة وثيقة بحرب الموارد في أفريقيا، فالبترول الجنوبي تتحكم فيه الصين التي تواجه منافسة شرسة من الولايات المتحدة على موارد القارة الأفريقية لا سيما النفط.
وفي حين يقوم الأسلوب الصيني على الاتفاقيات الاقتصادية “الندية”، فإن الأسلوب الأميركي يقوم على افتعال الحروب واستخدام القوة العسكرية لإفساح المجال أمام الشركات النفطية الأميركية كي تعقد اتفاقيات استثمارية غالبا ما تكون مجحفة بحق الدول التي تفرض واشنطن عليها سيطرتها العسكرية والسياسية كما الحال مع العراق الذي سبق أن احتلته، وليبيا التي فرضت عليها تدخل حلف الناتو العسكري. ويشار هنا إلى استضافة جوبا من قبل، لقيادة القوات الأميركية المسماة آفريكوم وهي القوة التي كانت تدار مؤقتا من قاعدة عسكرية في مدينة “شتوتغارت” الألمانية.
العنوان العريض المضلل لأهداف القاعدة الأميركية (آفريكوم) محاربة الإرهاب في أفريقيا، لكن الهدف الرئيس هو تأمين موارد أفريقيا للولايات المتحدة.
في فبراير/شباط من العام 2007 أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أمام لجنة التسلح في مجلس الشيوخ الأميركي أن الرئيس السابق بوش الابن اعتمد قرارا بإنشاء قيادة عسكرية أميركية جديدة للقارة الأفريقية، وهدفها غير المعلن احتواء أي تدفق “غير مضبط” لمصادر الطاقة بها، وفي مقدمتها النفط.
الجزيرة
ياسر محجوب الحسين
[/JUSTIFY]