كانت هذه المدينة تزخر بـ 25 ألف نسمة قبل أن تتحول إلى مدينة أشباح متفحمة، وكانت أول منطقة تسقط في أيدي المتمردين فور اندلاع الصراع في جنوب السودان في الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول العام الماضي.
شهدت المدينة منذ ذلك الوقت قتالا عنيفًا تبادل فيه طرفا الصراع السيطرة عليها عدة مرات.
وباتت زيارة المدينة مغامرة محفوفة بالمخاطر قبل أن تستعيد القوات التابعة لحكومة جنوب السودان السيطرة على بور ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى يوم السبت الماضي.
وكان صحافيو بي بي سي من أوائل الصحافيين الذين سُمح لهم بالدخول لتوثيق ما شهدته المدينة من خراب نتيجةً للصراعات، حيث استقل الصحافيون طائرة تابعة للحكومة انطلقت من العاصمة جوبا وبدأت رحلتهم.
قال الحاكم العسكري لمدينة بور الليفتنانت جنرال ملوال أيوم دور لبي بي سي “وقعت هنا معركة ضارية، لكنها كان انتصارًا هامًا أيضًا. ولابد أن يعود الناس إلى حياتهم الطبيعية.”
وتساءل قائلا “هل يمكن أن تتعافى بور؟ نعم ولكن عودة من تلقوا صدمة الحرب إلى المدينة سوف تستغرق وقتًا طويلاً. فبعضهم لا زال في الأحراش بمن فيهم والدتي التي لا أستطيع الاتصال بها ولا أدرى إن كانت على قيد الحياة أم لا.”
رائحة الموت
بدأ القتال هنا منذ شهر بسبب نزاع سياسي داخل الحزب الحاكم وصراع على السلطة بين الرئيس سيلفا كير ونائبه الذي أُعفي من منصبه العام الماضي رياك مشار.
ومع أنه صراع على السلطة، أنحى البعض باللائمة على الخلفية العرقية للطرفين، حيث ينتمي الرئيس كير إلى قبائل الدنكا بينما ينتمي مشار إلى قبائل النوير.
وحول القتال مدن عديدة من بينها بور إلى مجرد أنقاض ولا زال طرفا الصراع يتبادلا الاتهامات ويزعم كل طرف منهم أن الآخر هو من أسرف في القتل والعنف في حين تحقق الأمم المتحدة في الأمر مع توقعات بإمكانية اكتشاف جرائم حرب ارتكبت أثناء الصراع.
هناك الكثير من القتلى لم تنتشل جثثهم بعد، كما يبدو المشهد في أحد المستشفيات مروعًا بعد أن نهب المتمردون محتوياته مرتين وقتلوا مرضى في أسرتهم.
وخارج المستشفى ترقد جثتان متعفنتان لقتيلين أحدهما بُترت ساقه بينما يرقد الآخر إلى جوار عصا كان يتوكأ عليها أثناء المشي.
ووصل النهب إلى درجة استيلاء المتمردين على محتويات أجنحة المرضى فلم يتبق منها سوى بعض المراتب.
وعلى سرير داخل أحد الأجنحة ترقد جثة لإمرأة قُتلت أثناء الحرب وكان المستشفى في مسعى لإنقاذها، لكنها ماتت ووضعت الجثة على كومة من المفارش بينما تكونت بركة من دماءها أسفل الفراش لتسود المستشفى رائحة الموت والعفن.
أما من نجا من نيران الحرب فلا زال في المستشفى يتلقى العلاج من بينهم السيدة ميريا جرشاؤول التي جلست بملابس النوم على أحد الأسرة وقالت لبي بي سي إن “المتمردين طلبوا مني أموالًا وهاتفًا، لكني أخبرتهم أنني لا أملك أي منهما. فانتزعوا مني الحقيبة ليجدوا فيها بعض النقود ثم أطلقوا النار على كتفي.”
القلب يقطر دمًاوعلى الطريق أيضًا تقع سوق بور التي تحطمت عن آخرها ولم يبق منه سوى بعض الأكوام من الخردة والزجاج المتناثر في أرجاء السوق.
ويقول نيهيال ماجاك نهيال عمدة مدينة بور :”كانت هذه بالفعل مدينة الأحلام بجنوب السودان.”
تحتاج عودة الدينكا والنوير للعيش معًا بسلام بعد تلك الصراعات وقتًا طويلًا
وأضاف “كانت المدينة الأكثر نظافة وأمنًا في البلاد. أما الآن فقد تحولت إلى كومة من رماد. والسؤال الملح الآن هو كيف تعود بناء ثقة الناس ومتى تعود الحياة إلى المدينة. إن قلبي يقطر دمًا، الأمر مروعًا.”
يُذكر أن بور لها تاريخ أسود يبدو أنه يعيد نفسه في الوقت الراهن. ففي عام 1991، كانت هناك مذبحة راح ضحيتها 2000 من قبائل الدنكا على أيدي مسلحي النوير التي يقودها رياك مشار حاليًا بالإضافة إلى موت الآلاف من الجوع، وكاد الجرح أن يندمل لولا اندلاع الصراع الجديد ليمزق أواصر البلد الوليد.
ومع أن القوات الحكومية استعادت السيطرة على أغلب المدن الرئيسة وأصبحت الأوضاع أكثر هدوءً واستقرارًا، لا زال الاحتمال قائمًا بأن تعيد قوات المتمردين بقيادة مشار تنظيم صفوفها.
وحتى مع وقف إطلاق النار، من الممكن ألا يتوصل طرفا النزاع إلى مصالحة. وما أصعب أن يعيش الدينكا والنوير حياة يسودها القتل وغياب الثقة. فهل من الممكن في ضوء ما سبق أن يعيشا معًا في سلام؟
بي بي سي
ع.ش