كوارمون الدولة الحديثة.. رياك مشار.. المعارضة بعصا الكجور

[JUSTIFY]تبدو الحياة رخيّة وقاسية في آن، عندما تختارك المراعي العشبية الكثيفة والمستنقعات الآسنة في جنوب السودان، وغرب أثيوبيا، للعيش بين شعابها، ووابل أمطارها، ومناخها الاستوائي العطِن، تحمل عصاك وتسعى خلف قطيع الماشية، الذي يبدو قبل فصل المطر مثل كتلة عجفاء؛ شاحباً وكئيباً، ضامر البطون، بائن الضلوع، ينظر بعيون حزينة وكأنّ الهمّ هدّه. وعند انبلاج فلق الخريف تتنفّس أنت -كما القطعان تماماً- دفقاً من نسمات الجنوب الطريّة، ترفع منخريك للنسيم، وتصيح منادياً القطيع وكأنّك تخور.
في تلك المستنقعات يبدو كلّ شيء رخياً وقاسياً؛ موارد المياه، الفاكهة الاستوائية، طيبة المذاق والنكهة، رائحة الأناناس والمانجو منخرطة في رائحة الروث والأسماك المجفّفة (الكجيك)، ذبابة تسي تسي، وأنثى الأنوفليس، رجفة الملاريا ومرض النوم الذي يقود إلى لحد مبكر، سرعان ما تزول معالمه جراء السيل الجارف، والرحيل المستمرّ خلف القطعان.
في بيئة مماثلة وُلِد للسيد مشار تيني ابن ذكر، فلم تسعه الأرض فرحة – كاد يطير – كـ(نورس مهاجر)، إذ أن من عادات وتقاليد قبيلة النوير التي ينتمي إليها، أنّه ليس للبنت بلد أو قبيلة، أما الذكر فيبلغ شأواً عظيماً حدّ أن الابن الأكبر يرث كل زوجات أبيه – فيما عدا أمّه – بالطبع، بعد موته، ويرث كلّ شيء عن أبيه؛ حتّى مهمة الإنجاب عنه وهو ميت، فينسب من أنجبهم أنجبهنّ – من أطفال منهن إلى والده الراحل المقيم.
هكذا نشأ النائب السابق لرئيس جنوب السودان، وقائد المتمردين الحاليين (رياك مشار)، حتّى تجلّت بيئته بائنة على جبينه. وقيل في أثر النوير إنّ الصبية عندهم يدشنون رجالاً ذوي بأس شديد بين الثانية عشرة والسادسة عشرة من أعمارهم، حيث يضطلع الكبار ضمن مراسم التدشين بمهمة اجتراح شلوخ عميقة بعرض جبهة الصبي دلالة على النضج.
* ميول استقلاليّة
يكتسب الناس سلوكهم من بيئتهم، فيستدعون أحد رجال الدين ويدعى (كوارمون)، وترجمتها زعيم جلد النمر، ليساعد في تسوية الخلافات، ويرأس الاحتفالات الدينية، ورغم أنه لا يُحظى بسلطات وصلاحيات سياسية كبيرة، لكنّه كثيراً ما يتغوّل عليها بحكم منصبه الديني (الروحاني) العظيم.. تلك الروح الأفريقية التي تحلق في فضاء جغرافي ومناخي متسع ومتنوع.. فضاء يجري تحته نهر السوباط وتكثر فيه المستنقعات ويتمدد إلى الحبشة حيث (نوير قامبيلا).
ربّما كل هذه التعقيدات هي التي جعلت النوير معتزين بأنفسهم حد الإفراط، وميّالين إلى الاستقلالية والتمرد.
* من الغابة وإليها
كلّ تلك التعقيدات وهذه الكثافة رمت جنوب السودان في العام 1952م بطفل اسمه (رياك مشار تيني)، الذي تقول سيرته الذاتية إنّه التحق بكليّة الهندسة، جامعة الخرطوم، وتخرج فيها، ثم درس الهندسة الصناعية بالجامعات البريطانيّة، وعاد أستاذاً جامعياً فذاً وذا صيت، لكنه سرعان ما التحق بالتمرد (الحركة الشعبية لتحرير السودان) في العام 1983م، قبل أن يشقّ عليها وعلى زعيمها الأكبر، جون فرنق ديمابيور عصا الطاعة، إذ وقّع عام 1997 اتفاقية الخرطوم للسلام مع الحكومة السودانية، فتسنم بموجبها منصب مساعد رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس تنسيق ولايات الجنوب، وسرعان ما فضّ سامره ونفض يديه عن حكومة الخرطوم وعاد مجدداً إلى الغابة، عام 2000م.
* سنوات إيما
تقول الحكايات القديمة: إنّ جدّ النوير الأكبر (لانجور) كان قد عبر النيل الأبيض عند فاشودة وسار برهطة شرقاً إلى ملكال واتخذها مقراً له، ومن هنا نشأت تحالفات قبلية بين بطون وأفخاذ وفروع تقوم مرجعيّتها كلها على إشارات وإيماءات وتوجيهات زعيم روحاني كبير يسمّونه (كجور).. ليس مهمّاً إن كان هذا الكجور هو (دينقكوز) من (مايوم) أو (ناكولانق) من (جقي وأدوك)، أو روح امرأة تسمى (نروش كولانق). ما هو مهم أن ينطلق كل شيء من بين تضاعيف وثنايا هذه البوتقة الروحيّة العظيمة، ويبدو أنّ مشاراً ظل يبحث عن امرأة تشبه (نروش)، حتى التقى بضدّها، فتزوّج بالإنجليزيّة إيما ماكوين، التي جاءت للعمل في السودان في العام 1987 خلال فترة الحرب الأهليّة.
ستة شلوح على شكل نصف دائري وأفقي على الجبهة تبدأ عند الأذن وتنتهي عند الأذن الأخرى، ست أسنان تخلع للدلالة على انتقال الصبي إلى الرجولة، كل تلك الطقوس تبدو راسخة في وجدان رياك مشار، يستدعيها حين المصيبة والعسر، ويتخلّى عنها (حين ميسرة).
* نبوءة “واندينق”
بعد استقلال الجنوب عن السودان -ومُبكراً جداً – ابتدر الرجل صراع السلطة مع الرئيس سلفاكير، وتوسّل فيه بدايةً – بحسب ما أُشيع حينها – بما يعرف بنبوءة (واندينق)، وهو روحاني (كجور)، ذو سلطان ونفوذ عند النوير، تقول النبوءة: إن القائد الجنوبي الذي سيأتي بالسلام سيمكث في الحكم أياما بقدر سنوات حربه في الغابة، وسوف يستلم منه الحكم أحد أقربائه فيحكم فترة من الزمن يعقبه أحد أبناء النوير، الذي من صفاته أن هنالك حول بعينيه ويستخدم يده اليسرى (أحول وأشول)، الأمر الذي أخاف الرئيس (سلفاكير)، فأظهر حذراً دائماً من نائبه.
* وسنوات الأرق
تحت ظل النبوءة تلك، ظل مشار يمضي في عمله كنائب للرئيس، وتحت وطأة تلك النبوءة، ظل الرئيس يرزح ويتقلب من شدّة الأرق، وظلّ الرجلان يرصدان على صدى تلك الأسطورة، بعضهما بعضاً، بريبة وشك، خاصة وأن علامات النبوءة (الكجوريّة) النافذة انطبقت على مشار تماماً، ويبدو أنّ هذا ما دفعه بعد إقالته من منصبه كنائب للرئيس لأن يقول عبر مؤتمر صحفي إنه باقٍ داخل الحركة الشعبية، ربما كان ينتظر تحقّق النبوءة، وهو ضمن عضوية الشعبية. هذا الإعلان جعل (الفأر يلعب في عِبّ) الرئيس، إذ أنّ هذا البقاء سيرفع من نسبة احتمال تحقق نبوءة (واندينق).
* اشتعال الفتيل
بين لعبة السياسية والمخابرات والسحر مضى الرجلان الكبيران، بأعين مفتوحة وقلوب واجفة، وعقول غائمة، إلى خط النهاية، الذي هو خط البداية ذاتها! وقبل خطوة واحدة من النقطة الفاصلة، أعلن سلفاكير عزل نائبه مشار، وإحالة الأمين العام للحركة الشعبية إلى لجنة تحقيق متهماً بفساد مالي، وفي ذات الخطوة أعلن مشار قبوله قرار الإقالة لكنّه سيظل متمسكاً بعضويّته في الشعبيّة، وأنه بصدد الترشح للرئاسة في انتخابات عام 2015م، لكنه قبل ذلك كله عازم على خوض غمار الانتخابات التمهيديّة للحزب، ومنافسة الرئيس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأضاف: إنّ جنوب السودان -الدولة الحديثة- لن تسمح بحكم الفرد، ولن تتسامح مع الدكتاتورية.
أثناء ذلك، كانت صحيفة (الغارديان) البريطانية نشرت تقريراً جاء فيه أنّ نائب رئيس دولة الجنوب لديه طموح لإطاحة الرئيس سلفاكير والاستيلاء على الحكم، وأنّه لربّما يخطط للاستيلاء على الحكم، وأشارت (غارديان) إلى أنّ مشار كان وبعد زواجه من الإنجليزية “إيما” قد باح لها بالكثير من الأسرار، عن الحركة الشعبيّة، قبل أن تلقى حتفها في حادث تحطم سيّارة بنيروبي، عندما كانت حاملاً بطفلها منه، وقد روت قصتها في كتاب بعنوان “حرب إيما”، كتبها (ديبورا سكروقين).
* الولع والرغبة
تقرير الصحيفة البريطانية كشف عن أنّ ولع مشار بانفصال الجنوب كان بسبب رغبته في السلطة (الرئاسة)، وأن هذا الولع وتلك الرغبة هما اللذان كرسا لخلافات عميقة بينه وزعيم الشعبية الراحل جون قرنق، حيث كان الأخير بحسب (ذي قارديان) يرغب في إصلاحات كبيرة وجذرية في ظل سودان واحد، تحترم الجميع دون النظر إلى أعراقهم ومعتقداتهم.
* الحلم والحقيقة
لم تكن العلاقة بين مشار وزعيم الشعبية الراحل (سمناً على عسل)؛ فالأوّل، وبمعاونة أحد القادة البارزين – لام أكول – قادا أوّل انشقاق ذا دويّ عن الشعبية مفتتح تسعينيات القرن المنصرم، وكونا غرفة متمرّدة أخرى، حملت لافتة (الحركة الشعبية، مجموعة الناصر). وفي ذلك يرى كاتب تقرير (الغارديان) أنّ تلك الفترة كانت معقّدة بحيث كانت الولاءات والتحالفات تنشأ على أسس إثنيّة، ما نجم عنه حروب عنيفة بين فصيلي الشعبيّة، بينما حصل فصيل الناصر -بقيادة مشار- على إسناد ودعم كبيرين من الحكومة السودانية، فكانت النتيجة أن وقع الفصيل المنشقّ اتفاقيّة مع الحكومة المركزية في الخرطوم، تولّى بموجبها (مشار) منصب مستشار الرئيس البشير، لكنه سرعان ما تجاوز خلافاته مع قرنق – بحسب التقرير- وانضم مجدداً للشعبيّة، فأسندت إليه قيادة الجيش الشعبي في العام 2002م، وعقب توقيع ما عرف باتفاق السلام الشامل بين التمرّد والحكومة، والذي أعقبته وفاة قائد الحركة في حادث تحطم الطائرة الرئاسية الأوغنديّة، ومن ثم انفصال الجنوب عبر استفتاء شعبي، أصبح مشار أوّل نائب رئيس في الدولة الأفريقيّة الجديدة، وبالتالي اقترب حلمه من التحقق.
* القشّة وظهر الجنوب
وبعد إعلان جنوب السودان دولة مستقلة، سرعان ما دبّ خلاف كبير بين مشار والرئيس سلفا كير، وظلّ كلّ منهما (يكمن) للآخر ويحصي عليه أنفاسه ويؤلّب عليه أنصار الشعبية، فحين صوب مشار انتقادات لاذعة لسلفاكير وصلت حدّ مطالبته بالتنحي، وإبدائه استعداده للعودة للحرب مجدداً، كان سلفاكير يعدّ العدّة لإقصاء مشار من المشهد السياسي والعسكري الجنوبي، مرّة وإلى الأبد، فكان أن أعلن عن محاولة انقلابية بقيادة نائبة السابق، أعقبتها حملات اعتقالات واسعة طالت معارضيه – الذين ليسوا بالضرورة من أنصار مشار – فكان هذا الإعلان هو القشّة التي قصمت ظهر الجنوب.
* مشروع شبع موتاً
يبدو أن سلفا لم يستطع نسيان انتقادات نائبة السابق حتى صعد بها إلى باب الهاوية الراهنة، حيث كان مشار قد وصف أداء حكومة سلفا بالضعف، وبأنّها عاجزة عن تحويل الجيش الشعبي من قوّات حرب عصابات، إلى كيان احترافي مؤهّل ومدرّب جيداً، واتّهم الخرطوم بإفقار الدولة الجديدة، خاصّة في مجال تصدير النفط، بهدف حرمانها من تأسيس دولة حديثة وبناء مؤسسات حكم قوية، مستطرداً بأنّ توقّعات الشعب كانت عالية حدّ أنه يحلم بدولة مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، وأن هذا الحلم لم يذهب أدراج الرياح فحسب، بل شبع موتاً، بسبب سياسات الرئيس، ونزعته نحو احتكار السلطة، متوسلاً في ذلك القبضة الأمنية الحديديّة، وإقصاء وتصفية الخصوم السياسيين، تارة باتهامهم بالفساد، وأخرى بتقويض نظام الحكم، وخيانة مبادئ الحركة الشعبية.
* النخبة المتناحرة والرؤوس البريئة
وهكذا وبحسب مراقبين وراصدين لسيرة الرجل، فإنّ رأساً تمور بحياكة المؤامرات، ونصب الفخاخ.. رأسٌ مركبة – بحسب النبوءات الكجورية – على جسد رجل (أشول أحول)، لا يرضيه حال ولا يستقر به مقام، طالما (البرنجي) غيره، رأس تعصف بها هموم السلطة والعرش، وتؤرق مضجعها رغبة القيادة، لن تهدأ على وسادة العمل ضمن جماعة -أو طاقم- إلا إذا كانت هي نفسها (رأسه)، وعليه فإن رحى الحرب ستدور وتطحن رؤوساً كثيرة بريئة، بينما تظل الرؤوس الكبيرة تتناطح على السلطة حتى يقع أحدها تحت حوافر الآخر، حينها سيكون الحديث للنصل الحاد وحده

عبد الجليل سليمان: صحيفة اليوم التالي

[/JUSTIFY]
Exit mobile version