ماذا أكتب ؟

ماذا أكتب ؟
تتجمع السحب وتنزلق ببطء وهدوء على صفحة السماء ، مثل ستارة مسرح تسحب لتغلق الخشبة …. تحلق اللقالق السوداء عاليا ، وتدور برشاقة في الفضاء فرحا بالخير القادم … ومع قدوم العصر ينساب نسيم رقراق ليمحي آثار هجير النهار … وأنا أجلس على كرسي أمام البيت ومعي ورقة وقلم محاولا التفكير في شئ يكتب … ماذا أكتب ؟ سياسة ؟ لا .. ليس هذا بجو سياسة ، أريد أن أكتب عن شيئا آخر … ولكن قلمي كالزنبرك .. كلما جررته بعيدا عن السياسة يعود إليها بنفس قوة جري له … ماذا أكتب ؟ … أطفال الجيران ( حمودي ) و ( هناء ) يلعبان جواري بأفرع شجرة النيم .. يغنيان أغنية طفولية قديمة علمتها أنا لهما … عشرة عشرين تلاتين تسعين مية … نطو علينا الحرامية .. سرقو الجبنة والطحنية … أغنية قديمة قدم الدهر لازالت تتردد عبر الأجيال .. جيل خلف جيل وحرامي خلف حرامي .. كلهم ( ينطون ) علينا ، وكلهم يسرقون الجبنة والطحنية والماضي والحاضر وأحلام البسطاء .. .. قلت إنني لا أريد الحديث عن السياسة … سأكتب عن السحب الجميلة الكثيفة التي تتجمع منذرة بأمطار الخير والبركة… فقط الأعمى سيقول إنه لا يرى السحب … الأعمى سيقول لا توجد سحب تتجمع .. إنها بضع غيمات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة … يقولون له :
– إفتح عينيك … ألا تراها ؟ هاهي ذي تتجمع في الأفق
فيغلق عينيه ويسد أذنيه ويردد :
– ما دامت تتجمع في الأفق فهي إذن شاذة أفق
قلت إنني لا أريد الكلام عن السياسة … هناء الصغيرة تمسك بفرع النيم وتقول لأخيها :
– حمودي شوف
وتنحني لتكنس به الأرض كما رأت أمها تفعل … جيناتها كأنثى والتي ورثتها منذ عصر حواء ، جعلتها تستعمل الفرع للتعمير والتنظيف وجعل الحياة جميلة ، أما حمودي فقد رفع فرعه ونزع عنه الورق حتى صار سوطا طويلا ، ورفعه في الهواء وهوى به على ظهر أخته حتى صرخت وبكت .. هو أيضا إستعمل جيناته التي ورثها عن أجداده و مفيش حد أحسن من حد … أختهما الكبيرة (هند) تخرج لتنهر حمودي ، وتراني فتحييني بحياء : إزيك يا دكتور
أرد عليها التحية فتسألني :
– في جديد في الفيس ؟ الليلة ما خشيت .. حصل شنو في الجامعات ؟
أقول لها إنه لا جديد .. مازال الطلاب يحتجون ولا تزال السواطير والسيخ هي الرد عليهم .. فتعود للبيت لتفتح الفيس وترى آخر الأخبار … مثلها مثل ألاف الشبان والفتيات .. لقد إخترقوا الحاجز وفهموا ما يحدث لذلك خرجوا ولم يخرج آبائهم .. آبائهم الذين صارت تفصلهم عنهم فجوة واسعة وسنوات ضوئية في معرفة ما يدور في هذا العالم .. آبائهم الذين لا يزالون يستقون االأخبار من الصحافة والمذياع .. تلك الصحافة والمذياع التي وصفها العبقري أحمد مطر قائلا :
والصحافة … خرقة ما بين أفخاذ الخلافة
والمذيعين خراف … والإذاعات خرافة
غضب الله علينا .. ودهتنا ألف آفة
منذ أبدلنا المراحيض لدينا…
بوزارات الثقافة …
قلت لكم إنني لا أريد الكلام عن السياسة … لذلك أفتح هاتفي وأشغل أغنية ( جميلة ومستحيلة ) .. اللحن الملائكي يتردد فيعم الصمت .. تستمع إليها العصافير وتتمايل لها أفرع الأشجار … لقد كتبوها في السجن ووغناها العملاق بعد خروجه من السجن واليوم يستمع لها بإستمتاع الأحرار الذين يعيشون في السجن .. يا جميلة ومستحيلة .. إنتي دايما زي سحابة الريح معجلة بي رحيلا .. جميلة ومستحيلة .. جامعة الخرطوم .. جامعتي وفخر بلادي في الزمان الغابر .. يدخلها في اليوم مائة ساطور وسيخة ولا يخرج منها غير الدخان وصرخات النجباء … عزيزي الطيب صالح .. ألا زلت تتساءل : من أين جاء هؤلاء ؟ … لقد جاءوا من الجحيم مباشرة إلى بلادنا … وبينما أنا أكتب هذا الكلام نزل لي شيطان من الشجرة وقال لي بالحرف :
– أشطب الكلام ده … الناس ديل ما جو من الجحيم
قلت له :
– وشن عرفك إنت ؟
– أقول ليك بس ما تفهمني غلط ؟
– قول يا شيطان
تلفت حوله متوترا ، ثم قال :
– أنا كنت هناك هسي والكلام ده كضب

الكاتب الساخر : د.حامد موسى بشير

Exit mobile version