وفي الفترة الأخيرة أصبحت مقاطع قصيرة في أيام قليلة تجوب دولاً ويتداولها الملايين وتعلق عليها شعوب وأمم، وربما كتبت صفحات في التعليق عليها.
رأيت أن أعلق على بعض أشهر المقاطع المتداولة في الفترة الأخيرة، والمقصود الأهم في ذلك هو ضرب الأمثلة وذكر نماذج للتنبيه عليها وعلى غيرها، ولتنبيه من يتناقلون تلك المقاطع، وليصل من أخرجوها وصوروها وأصحاب تلك المقاطع الحكم الشرعي في ذلك.
المقطع الأول: الذي أقف معه هو مقطع فيديو لرجل سمى نفسه «شيخ خليفة» قدّم في المقطع خطبة لأتباعه ومريديه أخبرهم فيها برؤى رآها للنبي عليه الصلاة والسلام حيث ذكر لمن يستمعون إليه أن النبي عليه الصلاة والسلام أخرج يده من قبره وصافحه وأخبره أنه يحبه ثم أخبره بقوله: «أضمن بضمانتي» ثم أخبر هذا الشيخ الحضور بأنه ضمنهم بتلك الضمانة، وقابل الحضور ذلك الضمان بالبكاء الشديد، المقرون بالبشرى بالفوز بضمان الشيخ لهم، كما أخبرهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام معجب بساحة المولد وما يحصل فيها وأنه رآه أنه جاء ودخل الخيام مقراً لذلك مستبشراً وغير ذلك مما جاء في المقطع المذكور..
قلتُ: هذا الضمان يشبه ما فعلته الكنيسة في زمان مضى من إعطاء «صكوك الغفران»، وهذا من أعظم أنواع الاعتداء على حق الله تعالى، وهذا الاعتقاد للأسف يوجد لدى بعض شيوخ الطرق الصوفية وفي كتاب منتشر ادعى أحد الشيوخ لأتباعه أن الله أراه منزلته في الجنة وأراه كذلك منازل أتباعه وأطلعه على النار ولم ير أحداً من أتباعه فيها فخاطبهم بعدها ونظم شعراً طبعه في كتاب يتداول فقال لهم وأخبرهم بأنهم مهما ارتكبوا من المحرمات والأوزار فلا خوف عليهم فقد ضمن لهم الجنة!!! فقال في كتابه الذي سماه «ديوان جامع الشطحات» ما يلي:
أنا من أراني الله ربي بفضله *** مقامات أصحابي جميعاً بجنة
وقد قال لي انظر هل لك الآن صاحب *** له منزل في النار يا ذا الهداية
وشاهدتها حالاً ولم ألف منزلاً *** لأصحابنا فيها وبؤت بفرحتي
فمن جاءني بالصدق أقبله وإن *** به كل وزر لا يبوء بخيبة
وقال قبلها:
أيا صاحب ابشر بي فإني حاضر *** إليك إذا ناديت في كل شدة
ومهما ترمني في النوائب كلها *** فنادي بيا إسماعيل كشف المهمة
أنا الشيخ اسماعيل مصباح عصره *** أنا ابن عبد الله دخري الملمة
وصاحب الفيديو يدَّعي ينقل عن السيوطي أن النبي عليه الصلاة والسلام يُرى في اليقظة، وهذا اعتقاد باطل غير صحيح، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام يُرى بعد موته يقظة لكان الصحابة أولى بذلك.. قال القرطبي المالكي: في بيان بطلان هذا الاعتقاد: «وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول. ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وان لا يراه رائيان في آن واحد فى مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه. ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيُزار مجرد القبر. ويسلَّم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبر. وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل».
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: «بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: «ثمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر» عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة الخ».أ.هـ
وادعاء ضمان النجاة أو السلامة أو الجنة باب عريض للغش واللعب على البسطاء والسذج والجهال، فليت صاحب الفيديو مدَّعي الضمان أو من صوَّره ونشره يعلمون النصوص الشرعية التي من علمها أدرك فساد مثل هذه المعتقدات..
عن أَبَي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا. رواه البخاري ومسلم..
وكفى بمثل هذا الخبر من نبي الهدى والرحمة معلماً، وكفى به مغلقاً لأبواب الضحك على البسطاء وقليلي العلم والمعرفة.
ونحن نقرأ في القرآن الكريم وفيه من القصص الواضحة الصريحة التي تبطل بها مثل هذه المعتقدات مثل قصة نوح مع زوجته وابنه.. وإبراهيم مع أبيه.. ونعلم أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يستطع هداية عمه أبي طالب فضلاً عن ضمانته رغم حرصه الشديد على هدايته، بل أخبر عليه الصلاة والسلام عنه أنه في ضحضاح من نار مخلداً فيه.
وعجبي أن يدَّعي أناس أنهم أوقدوا نار تحفيظ القرآن.. وهم يناقضون أصول وغايات القرآن!! ويخالفون ثوابته بهذه الدعاوى الباطلة..
إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول للصحابة بعد دفن الميت وهم عند قبره: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل.. وعلمنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نكون بين الخوف والرجاء ونتعبد الله بذلك ولا نأمن مكر الله ولا نيأس من رحمة الله، والأنبياء عليهم السلام كانوا كما أخبر عنهم ربهم جل وعلا في القرآن الكريم : «يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً»..
ألا فليُتلف ذلك المقطع من العقول قبل إتلاف تسجيله فإنه يناقض المعتقد الصحيح، ويصادم القرآن والسنة.. والدين أغلى ما يُحفظ ويصان..
صحيفة الإنتباهة
ع.ش