تصحيح مفهوم الانتماء القبلي المقدمة أعلاه ربما تكون مدخلاً مناسبًا للقضية المطروحة الآن بقوة من داخل الحركة الإسلامية وهو برنامج تصحيح مفهوم الانتماء القبلي الذي يتبناه كما يبدو أمين عام الحركة الإسلامية الزبير محمد الحسن الذي قال إن الحركة الإسلامية تبنت في خططها للعام «2014» برنامجين ثقافيين اجتماعيين وفكريين، برنامج حرمة الدماء، وبرنامج نبذ العصبية والقبلية والعرقية، وتصحيح مفهوم الانتماء القبلي والانتماء الجغرافي، حتى يحمل شيئاً إيجابياً.
وفي نوفمبر من العام الماضي قال الأمين العام للحركة الإسلامية، الزبير أحمد الحسن نفسه، إن تطبيق الحكم اللا مركزي بالسودان عزز قيام حركات التمرد، وجعل الانتماء للقبيلة أكثر من الوطن. وأضاف: «يحتاج الأمر لنظرة قانونية ودينية داخل المجتمع لتنقية الفكرة من الشوائب».
السهم المرتد
المتابع لمجريات الأمور وتداعيات هذا الملف يدرك بوضوح تام أن التوجهات القبلية والنزعات الاستقلالية والاحتجاجات المطلبية، كلها الآن أخذت طابعًا مخيفًا ومزعجًا، وبات واضحًا أن حزب المؤتمر الوطني الذي كان يدفع قبائل السودان دفعًا للبيعة وتجديد البيعة كواحد من أخطر أساليب الاستقطاب السياسي في البلاد، وتحجيم تمدد الأحزاب الأخرى، وسحب البساط من تحت أرجلها، بات واضحًا أنه قد أدرك خطل تلك التدابير السياسية الماكرة وأيقن تمامًا أن السهم قد ارتد على نحره وذلك من خلال جملة من المعطيات كانت نتاجًا طبيعيًا لتلك التدابير السياسية وجر القبائل إلى أسلوب البيعة، ولعل نتائج تلك السياسة قصيرة النظر تبدو في النقاط التالية:
أولاً: بدا من خلال بعض التباينات والمقاطعات، والتضاربات التي تحدث في المركز والولايات أن الحزب أصبح يمور بكثير من الخلافات ذات الطابع الجهوي والقبلي، نظرًا للتنافس «داخليًا» على أساس القبيلة، ومركزها وثقلها ووزنها الجماهيري.
ثانيًا: ووفقًا للنقطة أعلاه نشأت كثير من الحساسيات بين بعض القبائل تجاه بعضها، بينما انتاب أخريات شعور بالغبن تجاه المركز الذي بدا في نظر الكثيرين يميز بين القبائل حسب «وزنها» وثقلها.
ثالثًا: أصبحت القبيلة أحد المعايير الأساسية التي تدخل في عملية اختيارالوزراء والولاة وكبار المسؤولين والدستوريين.
رابعًا: بموجب هذه السياسة، أصبحت الموازنات القبلية والترضيات السياسية رقمًا أساسيًا لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال في أية عملية سياسية، وإن كان تشكيل وفد حكومي لمفاوضات سياسية.
خامسًا: وتأكيدًا للنقاط أعلاه تسابق كثير من قيادات وسياسيي القبائل نحو تقديم قبائلهم للحزب الحاكم لتأكيد فرائض الولاء والطاعة من أجل مكاسب سياسية بحتة ومصالح موغلة في الذاتية وليس من أجل الدفاع عن الدين وحماية المشروع «الحضاري» كما يزعمون في بيعاتهم.
سادسًا: وكنتاج طبيعي لذلك شاهدنا كثيرًا من الروابط القبلية يتم تسجيلها ويرعاها كبار المسؤولين بالدولة.
الصداع المزعج
وبناء على ما تقدم ووفقًا لكثير من المعطيات والملاحظات وقرائن الأحوال يمكن القول إن الحكومة المركزية وحزبها الحاكم «المؤتمر الوطني» والحركة الإسلامية الآن أدركت خطورة الاتجاه الذي يمضي فيه بعض السياسيين وقادة وأعيان القبائل من المثقفاتية والانتهازيين لنهب موارد الدولة، والاستيلاء على المناصب والمواقع باسم القبيلة، والبيعة والولاء، وهو اتجاه يعزز الانتماء للقبيلة أكثر من الوطن وهي المحاذير التي بدأت ترتعد منها فرائص المؤتمر الوطني وهي ذات المخاوف التي عبَّر عنها الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير محمد الحسن.
حديث مردود
إذن حديث المسؤولين بأن الحكم اللا مركزي هو السبب في هذا التطور الخطير وتجديد تأكيد أمين عام الحركة بأن تطبيق الحكم اللا مركزي بالسودان عزز قيام حركات التمرد، وجعل الانتماء للقبيلة أكثر من الوطن، يصبح حديثًا لا تسنده معطيات موضوعية وقوية، صحيح أن للحكم المركزي كثيرًا من السلبيات التي ربما أسهمت في ذلك إلا أن أسلوب البيعة وتجديد البيعة وفتح الحكومة هذا الميدان للتسابق نحو تأكيد الولاء هو الذي فتح باب الجحيم الذي تمضي بلادنا نحوه.
صناعة التمرد
وأما الحديث عن أن تطبيق الحكم الفيدرالي هو المسؤول عن بروز التمرد والحركات المسلحة، يصبح أيضًا حديثًا بلا سند، وتبدو«الحكاية» التي هي أقرب للحقيقة هي أن سياسة تجزئة المفاوضات، وسلام القطاعي التي انتهجتها الحكومة، ومحاولات الاستقطاب التي مارستها هي التي ضاعفت أعداد الحركات المسلحة، ومعلوم أن سياسة الحكومة التي اعتمدت فيها على «شق» أو إغراء مجموعة صغيرة، أو أسر محددة، أو جماعات قليلة التأثير ثم الاحتفاء بهم والتوقيع معهم على اتفاق سلام بعد تضخيمه وتضخيم القادمين و«توظيفهم» هذه السياسة هي التي أغرت الكثيرين لتأسيس حركات مسلحة، ومهما يكن الاختلاف في تفسير الأمر إلا أن معظم المراقبين والمحللين يتفقون على أن سياسة الحكومة في التفاوض مع المتمردين هي التي أوجدت مزيدًا من التمرد، ولو أن الحكومة عملت منذ البداية على توحيد هذه الحركات من خلال بعض السياسات التي تشجع على ذلك لانتهى التمرد.. إذن الحكم الفيدرالي ليس مسؤولاً عن استفحال القبلية وانفجار التمرد بهذه الطريقة بل سياسات المؤتمر الوطني وحكومته هي المسؤول الأول والأخير.
صحيفة الإنتباهة