* 58 عاماً من الفشل، بل من التمادي في الفشل، دفع السودان ثمنها غالياً على حساب دماء أبنائه، ورفاهية شعبه، وطموحات شبابه، والأسوأ من ذلك أنه بذل فيها جانباً مقدراً من مستقبله (دفع مقدم)، لأن سوء الحالي لا يبشر بصلاح الآتي.
* أولى بوادر الحل تبدأ باعتراف كل الأحزاب والجماعات والنخب السياسية السودانية بأنها أخفقت في أن تقدم شيئاً مفيداً للوطن، وتقر بأنها أجحفت (ولن نقول أجرمت) في حقه، وتعيد البصر كرّتين لتتفرس ملامح الواقع المرير، وتشرع في تقويم مسيرتها، وتصحيح خطاياها، وتقتنع بأهمية، بل ضرورة القبول بالآخر، والرضا بتعدد الآراء والمواقف، وتفهم أن (الحلول الوسطية) تشكل على الدوام الطريق الأوحد والأقصر لتحقيق السلام الأهلي والاستقرار السياسي في كل مكان.
* على سياسيي السودان أن ينتبهوا جيداً، ويعلموا أن التاريخ لن يرحمهم إن تجاهلوا ما يحيط بهم.
* واقع السودان الحالي خطير.. خطير.. خطير.
* دولة فاشلة، تمزقها الصراعات والحروب، سياسيوها متشاكسون، أحزابها متنازعة، اقتصادها على شفير الانهيار، ووحدتها الوطنية على المحك الأخطر.
* لقد عانت دول كثيرة حولنا من مخاض أصعب، ونزاعات أطول وأشرس من التي عانينا منها، وأفلحت في الخروج من وهدتها، وودعت ماضيها الكئيب، وانطلقت إلى آفاقٍ أرحب، وما حدث في نيجيريا وإثيوبيا ورواندا وحتى كينيا خير دليل على صدق ذلك الحديث.
* حتى أمريكا سيدة العالم ما كانت ثورتها لتفلح في الانطلاق إلى آفاق التطور، لو تعاملت نخبها السياسية بذات الأنانية التي تعاملت بها النخب السياسية السودانية مع وطنها بعد الاستقلال، وقد شكل وجود قوى فكرية جبارة كالتي تمتع بها جورج واشنطون وتوماس جيفرسون وجون آدمز وألكسندر هاميلتون وغيرهم ممن صنعوا نواة الدولة الأمريكية قيمةً مضافة للحلم الأمريكي، الذي تولد من رحم حرب بالغة الشراسة.
* قوى فكرية وجبارة، كان من شأنها أن تجعل العقول عنيدة إلى درجة العمى، مثلما حدث عندنا منذ فجر الاستقلال، لكن ذلك لم يحدث لأن من قادوا الثورة الأمريكية امتلكوا نعمة القدرة على التعامل مع الحلول الوسطى، وقدموا مصالح وطنهم على رغباتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وطموحاتهم الشخصية.
* وضح ذلك جلياً في وثيقة الاستقلال الأمريكي التي صاغها توماس جيفرسون، وصنع منها إعلاناً ليبرالياً، يعلي قيم الحرية والديمقراطية، ويصون حقوق الإنسان، ويحظر الطغيان، ويمنع الاستبداد، ويفسح طريق التبادل السلمي للسلطة، باعتباره حقاً إنسانياً أصيلاً.
* بدأ الدستور الأمريكي بسبع موادٍ فقط، وشكل في خاتمة المطاف حزمةً كبيرةً من الحلول الوسطية، بعد أن شهد 27 تعديلاً، أسهمت في توافق الشعب عليه، ليصبح الضامن الأقوى لكيان الدولة، فهل نعجز نحن عن أن نقر دستوراً يحوي خلاصة تجارب الأمم الأخرى، وهي مبذولةً أمامنا بالمجان؟
* دستور يشارك في صياغته المفكرون قبل السياسيين، ويستفتى عليه الشعب، ليحفظ لبلادنا وحدتها، ويؤمّن ما بقي من مقدراتها، وينهي الحروب التي أفقرتنا، وحولتنا إلى أمةٍ مقعدةٍ، تتسول قوتها، وتستورد لقمتها، وتصدر إحباطها ومحبطيها كل صباح.
صحيفة اليوم التالي