أولاً: تكريم الإسلام للمرأة بإعطائها حق الميراث خلافاً للأمم السابقة: من صور تكريم المرأة في الإسلام أن جعل لها الحق في الميراث من غير ظلم بعد أن كانت في الجاهلية لا تُوَرَّث بل تورث هي كغيرها من الأمتعة التي يتركها الميت، فجاء الإسلام فجعل لها الحق في الميراث سواء كانت زوجةً أم بنتاً أم أختاً أم أماً فلها الميراث الذي شرعه الله لها في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فكان مال الميت ينتقل إلى الكبير من أبنائه فإن لم يكن فإلى أخيه أو عمه فلا يورثون الصغار ولا الإناث بحجة أن هؤلاء لا يحمون الذمار ولا يقاتلون ولا يحوزون المغانم. ثم جاء تشريع الإسلام فأعلن بطلان نظام الجاهلية، قال الله تعالى: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا». وقال عز وجل: « يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا«11» الآيات.. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «بيان أن الدين الإسلامي هو الذي انتصر للمرأة وأعطاها حقها بعد أن كانت مهضومة في الجاهلية، لقوله: «وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ»، ولكن الدين الإسلامي لم يعط المرأة أكثر من حقها، ولم ينزلها من منزلتها، بل أعطاها الحق اللائق بها، وهو معروف ولله الحمد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».
ثانياً: الحالات التي ترث فيها المرأة مثل ميراث الرجل: أثبت الإسلام كما تقدم بيانه ــ تقديره للمرأة، ورعايته لحقوقها، بإعطائها حق الميراث، خلافاً لما كان عليه الناس في الجاهلية، وخلافاً لكثير من الشعوب القديمة وبعض الشعوب في العصر الحاضر بالنسبة للزوجة مثلاً.
والنصيب الذي فرض الإسلام إعطاءه للمرأة يختلف وقد راعى الإسلام في ذلك اختلاف الحال في الإرث بين الوارث والمورّث، وربط الأمر بمقاصد شرعية عظيمة، خفيت على كثيرين، بل إنها خفيت على بعض المسلمين فضلاً عن غيرهم من الأمم الأخرى!! فإن المشهور أن الإسلام أعطى المرأة نصف ما يعطي الرجل في الميراث وهذا حق وهو القاعدة العامة في المواريث إلا أن الذي يُجهل في ذلك أن الإسلام قد فرض في حالات أن يكون نصيب المرأة «مساوياً» لنصيب الرجل، ومثله، وإذا تم جمع الأحكام والنظر إليها في اختلاف أحوالها وما ترتب عليه من اختلاف في النصيب والمقدار فإنه ستتضح الحكمة العظيمة في عدم التسوية في الميراث في الحالات التي حكمت فيها الشريعة بأن يكون نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وما أكثر من ينتقدون أحكاماً شرعية بسبب الجهل بمعرفة حالات الحكم وأحواله. قال الشاطبي: «ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد: وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بِبَيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين استنبطت…».
ومن الحالات التي يتساوى فيها نصيب ميراث المرأة والرجل ما يلي: 1 – يكون نصيب الأنثى مثل نصيب الذكر، في ميراث الإخوة لأم، فان الواحدة من أخوات الميت لأمه إذا انفردت تأخذ السدس، كما يأخذ الأخ لأم إذا انفرد السدس كذلك، وإذا كانوا ذكوراً وإناثاً، اثنين فأكثر: فإنهم يشتركون جميعاً في الثلث، للذكر مثل حظ الأنثى ولا يفضل الذكر على الأنثى قال الله تعالى: «وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ».
وقيل في علة كون الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ إذا انفرد السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; وإن كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا . فالصلة بينهم وبين الميت أنهم إخوته من أمه مع اختلاف والدهم ووالده، وهذا الفرق بين الإخوة لأم والإخوة الأشقاء أو لأب ناسب معه هذا التفريق في الميراث. وهذا مما يجهله بعض المسلمين فضلاً عن غيرهم.
والمقصود ببيان هذا الحكم وهو حكم ثابت بإجماع المسلمين وجود حالات ترث فيها المرأة كما يرث الرجل سواء، وبهذا تدحض شبهة عدم إكرام المرأة في تشريع المواريث بتنصيف نصيبها عن الرجل في الحالات الأخرى.
2 – ويكون نصيب المرأة مثل نصيب الرجل، في ميراث الأم مع الأب إذا كان للميت أولاد «فإن ترك معهما ذكوراً فقط أو ذكوراً وإناثاً، كان لكل من الأب والأم السدس من التركة، وإن ترك معهما إناثاً فقط، كان لكل من الأب والأم السدس، ويأخذ الأب بعد ذلك ما زاد من التركة عن السهام، قال الله تعالى: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ».
وهذا حال آخر جعلت فيه الشريعة الإسلامية ميراث الرجل مثل ميراث المرأة في حال الوالدين فإنهما يرثان السدس في الحال الذي تقدم بيانه. ولمزيد من التوضيح فإني أذكر حالات الميراث التالية والتي فيها تساوى نصيب المرأة والرجل:
إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختاً شقيقة: فلكل منهما النصف، وإذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختاً لأب: فلكل منهما النصف.
ثالثاً: مقاصد الشريعة الإسلامية في التفريق بين ميراث الرجل والمرأة في بعض الأحوال:
إن الله سبحانه حكيم لا يشرع إلا لحكمة بالغة سبحانه وتعالى؛ ولذا وصف نفسه بكمال العلم والحكمة، وكثيراً ما يقرن الحكم بعلته ويشير إلى حكمته. ومن ذلك أنه حينما ذكر مقادير المواريث بقوله: «يوصيكم الله في أولادكم» ختم الآية بقوله: «إن الله كان عليماً حكيماً». لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره، فهو كذلك مبني على المصلحة المبنية على كمال العلم، فالله سبحانه وتعالى يحكم لأنه عليم وهم لا يعلمون، والله يفرض لأنه حكيم وهم يتبعون الهوى. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علماً، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال».
وهذا الأمر يعلمه المسلم ويوقن به المؤمن، فإن المؤمن يكفيه أن يثبت الحكم الشرعي فيستسلم له ويقبله ويعمل به ويعلم أن في ذلك الخير كله وأن الله تعالى خالق المخلوقات جميعاً أعلم بما فيه مصلحتهم ونفعهم، فكانت شريعته على مقتضى ذلك تراعي أحوالهم واختلافهم وتباين خلقهم ووظيفتهم، ومع ذلك فإنه لا بد من توضيح المقاصد الشرعية في هذا التفريق.
وهو ما سيكون في الحلقة القادمة إن شاء الله.
صحيفة الإنتباهة
[/JUSTIFY]