الوطني والأمة.. تقارب الرؤى في ذكرى الإستقلال

[JUSTIFY]وأنت تطالع هذا المقال يكون قد بقي يوم واحد على احتفائنا بعيد الاستقلال رقم 58. وعلى الرغم من تشابه البرامج وشكل الاحتفالات، وربما حتى الأشخاص الذين تتم استضافتهم في المنابر الإعلامية تتكرر وجوه الأشخاص إلا من (أفتكره الله) سبحانه وتعالى وذهب إلى جواره. وربما أستطيع وغيري إذا طلب منا أن نضع خارطة برامج الاحتفالات أن تأتي متطابقة تماماً من حيث الموضوعات والأفلام التي تبث وحتى الأناشيد التي يمكن سماعها عبر الإذاعات أو القنوات الفضائية. وذلك كله دليلاً على إفراغنا للاستقلال ومحتوياته من معانيه ومقاصده، ولم يبق لنا من الاستقلال إلا الشكل، وذلك كله مؤشر على إفراغ الجهد الذي بذلنا تجاه الوطن.

ثمانية وخمسون عاماً كفيلة بأن تجعل أية دولة في مصاف الدول العظمى إذا عمل مواطنوها على تحقيق ذلك، ولكي لا نلقي القول جزافاً أمامنا تجربة الصين التي نالت استقلالها في العام 1949م، أي قبلنا بسبعة أعوام فقط.
وعلى الرغم من إجماع الأحزاب (وربما نقول الأمة) في لحظة نادرة في داخل البرلمان في التاسع عشر من يناير عام 1956م على الاتفاق على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، إلا أن ذلك كان على خلفية صراع طويل بين أحزابنا وعلى خلاف بين شعار (السودان للسودانيين) و(الاتحاد مع مصر).

ولم يمر زمن طويل على تلك اللحظة النادرة من الوفاق حتى بدأ الصراع بين الأحزاب على السلطة، ووضعت تلك اللحظة النادرة في متحف السودان يتم سحبها منه والوقوف عندها فقط قولاً لا تحويلها إلى برامج عمل سنوياً كلما يأتي يوم 19 يناير من كل عام.
فبعد فترة قصيرة تم إسقاط حكومة الأزهري، ثم تم تسليم السلطة بواسطة حزب الأمة للعسكر في إنقلاب أبيض، وهكذا دارت عجلة الصراع إلى يومنا هذا، لم يسلم من ذلك حزب من الأحزاب، كل يرفض الآخر وكل يريد إقصاء الآخر، والكل لا يقبل بالآخر، ثم انتقلت دائرة الصراع إلى داخل الأحزاب فتشظت وانقسمت أنقساماً أميبياً.

وكان ما حصده الوطن من صراع بين أبنائه وأحزابه على السلطة ما هو عليه الآن. وعبر عن هذه الحالة الصادق المهدي في حوار إذاعي الذي بث من خلال إذاعة أم درمان في يوم الجمعة 27/12/2013م في برنامج مؤتمر إذاعي حيث قال (إن السودان الآن على أعتاب وضع محترق بالحرب في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن المعاناة الاقتصادية وتردي أوضاع معاش الناس ولجأ البعض للولاء الموروث فزاد ولاء القبيلة والولاءات الطائفية مع اتساع دائرة العنف فكان ظهور نحو (50) فصيل مسلح مزود بالأحقاد والقبلية بجانب دخول أكثر من 30 ألف جندي أجنبي وصدور حوالي 47 قراراً أممياً في الشأن السوداني نتيجة لخطأ السياسات الحكومية في الداخل والخارج).

وعلى الرغم من أن الصادق المهدي عزى تلك المآلات للحكومات العسكرية التي استأثرت بما يقارب 80% من عمر السودان بعد الاستقلال ومنها بالطبع الإنقاذ، إلا أنه لم يعف الجميع من المسؤولية خاصة النخب، حيث قال: (يجب توزيع المسؤولية على كل النخب الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية).

وعلى الرغم من حالة الإحباط التي نعيشها بسبب ما آل إليه أمر الوطن إلا أن في حديث الصادق المهدي في برنامج مؤتمر إذاعي دلالات تدعو إلى حد كبير إلى التفاؤل ونحن على أعتاب العيد الثامن والخمسين لاستقلال السودان، هذا مقروناً مع ما جرى في المؤتمر الوطني من جراحة مؤلمة في هياكله ورموزه وما يعني ذلك (وهذا ما أشرنا إليه في المقالين السابقين)، هذا ما عزم الرئيس بوضع خطة لحلحلت كافة مشاكل السودان وإنهاء كافة حالات التمرد!!!.

وقبل أن أدخل في هذه الدلالات والمؤشرات أدعوا الجميع وخاصة المؤتمر الوطني وعلى رأسهم الرئيس للإطلاع على نص ما قاله الصادق المهدي وقراءة ما بين السطور.

والاضطلاع على النص كاملاً وفهم كل حديث في صياغه، هو الذي يؤدي إلى حالة التفاؤل وكما تقول العرب (إن آفة الأخبار في رواتها) لم أستمع إلى نص الحوار مباشرة ساعة إذاعته، ولكن سمعت بعض المقتطفات عنه. والذي سمعته كان فيه تناقضاً كبيراً حيث كان كل راوٍ يروي من حديث السيد الصادق المهدي ما يخدم قضيته، سواءً كان في الحكومة أو في المعارضة. وقد حاولت بكافة الطرق أن أحصل على النص كاملاً عبر الشبكة العنكبوتية في المواقع المختلفة، ولكن الذي وجدته أن كل (يغني على ليلاه) وما يطربها، وهذه بعض الأمثلة (المهدي: يحذر من محاولة الإطاحة بالنظام بالقوة)، (المهدي: يرهن المشاركة في الانتخابات القادمة بتوافر النزاهة والشفافية)، (المهدي: يحذر من الحالة السورية في السودان)، (المهدي: تغييرات الوطني مناظر وننتظر الفيلم)هذا كله قاله المهدي في اللقاء، ولكن لم يقله هكذا مبتتراً وإنما كان مترابطاً ومتسقاً.

وأخيراً وجدت تلخيصاً غير مخل لنص الحوار في جريدة (الأهرام اليوم)، أعده الصحفي خالد الفكي، وبالتالي كان الوقوف على ما قاله الصادق المهدي حقيقةً ومنه أتت حالة التفاؤل، ويمكن إجمال ذلك في الملاحظات الآتية:

أولاً: إن هذه التصريحات كانت عبر إذاعة أم درمان، وهي إذاعة ناطقة باسم الحكومة، فلو لم تكن الحكومة راضية عن الذي سيقوله الصادق المهدي لما سمحت بذلك. ولكن دعونا أن نكون أكثر تفاؤلاً ونقول أن هنالك تفاهمات وصلت إلى مدى بعيد بين الصادق المهدي والحكومة لذلك لم تتردد الحكومة أن تفتح للمهدي أبواب الإذاعة مشرعة لأنها تعلم أن الصادق المهدي لن يخرج من جو الوفاق بينهما.
ثانياً: لابد أن نقر ونتفق مع السيد الصادق المهدي وما ذهب إليه في توصيف حالة السودان، ونرجو أن لا يكابر المؤتمر الوطني في ذلك، لأن ذلك فعلاً حالة السودان. فإذا اتفقنا على توصيف الحالة فمن السهولة أن نصل إلى اتفاق حول (روشتة) العلاج. ثالثاً: ذكر السيد الصادق المهدي بعض مطلوبات الحلول وليست اشتراطات، منها:

1. على المؤتمر الوطني الحوار مع جميع الأحزاب السياسية والاتفاق على قومية الحكم، والانتقال من التمكين إلى نهج قومي يكون متفق عليه من قبل الجميع. وهذا ما يدعو إليه المؤتمر الوطني ولابد أن يكون المؤتمر الوطني قد وصل إلى هذه القناعة بضرورة الحوار مع كافة القوى السياسية، بعد أن وصل إلى قناعة تامة من استحالة استقرار الحكم في السودان بدون رضا وقبول الجميع، وفي تقديرنا أن المؤتمر الوطني قد وصل إلى هذه القناعة، وأن التغيير الأخير في الوجوه كما ذكرنا في مقالاتنا السابقة هو إبعاد كافة العناصر غير المقبولة لدى الأحزاب الأخرى، مما يساعد على الاتفاق مع هذه الأحزاب على المسائل القومية.

2. إن الدعوة للحوار بواسطة المؤتمر الوطني مرهونة باستحقاقات أولها أن لا تكون آلية الحوار في يد المؤتمر الوطني، ولابد أن تكون في أيدي القوى السياسية جميعها، ولا يستبعد المهدي أن يعرض المؤتمر الوطني بعض تلك الاستحقاقات لأنه يعتبر أن ما قام به المؤتمر الوطني من تغيير في الوجوه هو (مناظر) لفيلم لم يعرضه الوطني بعد.

3. لابد أن تقوم الانتخابات وفق إجراءات تتوفر فيها النزاهة والحرية والشفافية وتغييراً للمعطيات، حيث أن المؤتمر الوطني يسيطر على كل شئ حتى وسائل الإعلام والعلاقات الخارجية. فلابد من تغيير تلك المعطيات وتتوفر فيها الشروط التي يتراضى عليها الجميع.

مع ملاحظة أن كل هذه المطلوبات التي يعمل الصادق المهدي لتوفرها لإنجاح المفاوضات بين القوى السياسية وتحقيق الوفاق الوطني هي ما يتكلم عنه المؤتمر الوطني كضرورة لإنجاح الوفاق وجمع الصف الوطني

رابعاً: يرى الصادق المهدي ضرورة السعي من أجل تحول ديمقراطي وسلام شامل لتجنب التغيير عن طريق العنف، مشدداً على أن الفرصة الآن متاحة للسودان لتشخيص حالته الحالية بصورة تراعي التوازن لإحداث سلام عادل وشامل في البلاد تستوعب كل مكونات المجتمع المدني والسياسي وعلى رأسهم حملة السلاح وخاصة الجبهة الثورية، بيد أنه قطع أن العلاج لن يكون إلا عبر نظام جديد دون اللجؤ إلى استخدام السلاح وإلا تحولت البلاد إلى الحالة السورية. ومن كل ذلك يمكن أن نقرأ الآتي: ‌أ. المؤتمر الوطني هو الذي بيده السلطة الآن، ويحتكر كل مكونات الدولة، وحزب الأمة هو الحزب الأكبر بالبلاد قبل أن تطيح به الحكومة الحالية في 1989م.

‌ب. دار صراع مرير بين المؤتمر الوطني وأحزاب المعارضة ومن بينها حزب الأمة استخدمت فيه كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة. ولكن المؤتمر الوطني وحزب الأمة وصلا الآن إلى قناعة أنه لا يمكن أن يقضي أياً منهما على الآخر ولذلك لابد أن يقبل كل واحد بالآخر وفق الحد الأدنى من الاتفاق الذي يحافظ على استقرار البلد ويوقف احتمال السقوط إلى الهاوية (النموذج السوري) وإذا لم يتدارك الجميع ذلك.

‌ج. في تقديري أن المؤتمر الوطني وصل إلى قناعة إشراك القوى الأخرى معه في الحكم وفق المطلوبات والاستحقاقات التي يتطلبها الوفاق، وأن ما قام به من إجراء في تغيير الوجوه هو في هذا الاتجاه. كما أن حزب الأمة قد تنازل من بعض مطلوباته التي كانت متطرفة كالإصرار على المؤتمر الدستوري وغيرها.

وعلى ذلك نرى أن هنالك تفاؤل يلوح في الأفق مع قدوم فجر العيد الثامن والخمسين لاستقلال السودان، وأن هناك فرصة للتقارب ولم الشمل بين القوى السياسية المعتدلة والتي تمثل الوسط السوداني. وبالتالي يمكن أن نعيش احتفالات هذا العام بالاستقلال في جو من التفاؤل والأمل لبداية انطلاقة السودان ليحتل موقعه مع ما يتناسب مع إمكاناته بين الأمم.

وهذا الذي قرأناه هو مبثوث وبشدة وبتركيز في خطابات ومخاطبات الزعيمين، السيد الرئيس والسيد رئيس حزب الأمة. وليس لدي شك في أن وطنية أياً منهما ستجعله المبادر في سبق الآخر لكي يلتقيان ويبدأن في كتابة الفصل النهائي من معاناة السودان مع مطلع فجر اليوم الأول للعيد الثامن والخمسين من استقلال السودان.

smc
د. خالد حسين محمد
ت.إ[/JUSTIFY]

Exit mobile version