وما حدث في جوبا يوم (الثلاثاء)، حيث جرى اللقاء بين المبعوث والمعتقلين، يمثل سابقة جديدة أتت بها الولايات المتحدة الأمريكية وهي تنتهك سيادة الدول وتمارس أبشع أنواع الوصاية على الدول الصديقة التي تخشى بأس الولايات المتحدة، وبات واضحاً أن الدول الغربية أكثر ميلاً إلى دعم ومساندة المنشقين عن حكومة «سلفاكير ميارديت» رغم الدعم الإقليمي الذي يحظى به كرئيس شرعي لجنوب السودان تمرد عليه ثلة من العسكريين النظاميين وعسكريين بملابس مدنية، باعتبار أن الحركة الشعبية نفسها ما هي إلا حركة عسكرية تحمل السلاح لعشرات السنين وتعيش الآن مخاض الانتقال لتصير حزباً سياسياً مسلحاً يعول عليه في إحداث تحول ديمقراطي في بلد لا يزال يعيش مخاض التكوين..
وإذا كانت الولايات المتحدة وبطبيعة الحال من خلفها الترويكا الأوروبية وأصدقاء وشركاء الـ(إيقاد) يدعمون (خفية) المنشقين عن الحكومة الشرعية، فإن دولة مثل يوغندا اختارت التدخل السافر في شأن الجنوب بإسناد الجيش الشعبي بالطيران والمشاة والمشاركة في القتال، وقد أعلن المنشق د. «رياك مشار» عن أسر (40) جندياً يوغندياً في عمليات القتال التي جرت بمدينة (بور) قبل أن تُحكم الحكومة سيطرتها على المدينة، وليوغندا وكينيا وأثيوبيا مصالح حقيقية بالجنوب!! حيث شهد الاقتصاد اليوغندي انتعاشاً حقيقياً بفضل جنوب السودان الذي أصبح سوقاً للمنتجات اليوغندية رديئة الصنع، وخرج السودان الدولة الأم التي تعد منتجاتها الغذائية أكثر طلباً في مدن الجنوب لوجود ثقافة غذائية واحدة، إلا أن سوء التدبير قد أفقد السودان سوقاً رائجة لمنتجاته.. ويوغندا التي ولجت ساحة الحرب لصالح الرئيس «سلفاكير» عززت من شكوك واتهامات طالتها بالتورط في اغتيال د. «جون قرنق» لصالح تيارات جنوبية أخرى، ومن أجل مصالحها ومطامحها في جنوب السودان..
وقد اختارت يوغندا الوقوف في وجه تيار (أبناء قرنق) الذين هم الآن إما يقبعون في السجون مثل «دينق ألور» و»فاقان أموم» أو يحملون السلاح في مواجهة دولة صنعوها في ليل الأسى.
وحينما انتزع مجلس الكنائس في اليوم الثالث لاندلاع النزاع في الجنوب موافقة الرئيس «سلفاكير ميارديت» على التفاوض مع من سماهم الرئيس (الانقلابيين)، بدأت الشروط المسبقة لكلا الطرفين.. فالدكتور «مشار» يشترط إطلاق سراح المعتقلين، ثم الحديث عن رفض التفاوض مع «سلفا» إلا من خلال شروط كيفية رحيله من السلطة.
ووضع الرئيس «سلفا» شرطاً للتفاوض مع الانقلابيين باعترافهم جهراً بمحاولة الانقلاب على سلطة شرعية.
لكن المبعوث الأمريكي نجح في انتزاع موافقة الطرفين على محادثات في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا يوم (الثلاثاء) برعاية دول الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد).. لكن «مشار» عدّ المجموعة التي تم اعتقالها في جوبا هي الوفد الذي يمثله في المفاوضات حتى يتم إطلاق سراحهم والتوجه إلى أديس أبابا أحراراً طلقاء، وإذا نجحت المفاوضات في إعادة لحمة الحركة الشعبية وتوحيد صفها مرة أخرى، فإنه يكسب نقاطاً عديدة في مواجهة الرئيس «سلفاكير».. وإذا انهارت المفاوضات وفشلت وبلغت الطريق المسدود، فإن المعتقلين لن يعودوا مرة أخرى مثل العصافير بين يدي استخبارات الجيش الشعبي، وربما توجهوا من أديس أبابا إلى بانتيو وملكال اللتين أصبحتا تحت رحمة المتمردين الجنوبيين.
} الخرطوم ومأزق النفط
{ إن كان النفط قد أغرى الجنوبيين للانفصال عن الشمال وإقامة دولتهم، فإن النفط شكل عائقاً لانسياب العلاقة بين الخرطوم وجوبا حينما بات (صنبور) البترول أداة سياسية تستخدم في نزاع البلدين، قبل أن تستقيم العلاقة على جادة المصالح النفطية المحضة و(تعليق) بقية الأجندة الخلافية حول الحدود وأبيي والمعابر، حتى غمرت الأزمة الجنوب واستطاع د. «رياك مشار» السيطرة على مناطق إنتاج البترول في أعالي النيل والوحدة، وبدأ يلوح بشروط قاسية في حق جوبا تضع حليفتها الخرطوم في (مأزق) حقيقي باشتراط استمرار تدفق النفط بوضع عائداته في صندوق تشرف عليه الأمم المتحدة حتى لا تذهب إلى غريمه «سلفاكير ميارديت» رئيس دولة جنوب السودان، بدعوى إن «سلفاكير» يستخدم عائدات البترول في الحرب الدائرة.. ووضع د. «مشار» النائب السابق لرئيس الجنوب يده على حقول النفط حتى اللحظة لتعزيز موقفه التفاوضي، فإذا رفضت الحكومة السودانية شروط «مشار» كسبت الرئيس «سلفاكير» وحكومته ولكنها في هذه الحالة ستخسر الدكتور «مشار» القريب جداً من فرقاء الخرطوم وأحد الداعمين الرئيسيين للجبهة الثورية وقطاع الشمال، حيث تمثل الفرقة الرابعة التي انحاز قائدها لـ»مشار» أكبر (داعم) لقطاع الشمال، وتضم في تكوينها عدداً من الشماليين النوبة وأبناء النيل الأزرق.. وفي حال موافقة الخرطوم على شروط «مشار» بوضع عائدات النفط في صندوق خاص، فإنها ستخسر الرئيس «سلفاكير» الذي أوفى بعهوده مع «البشير» ونفذ الاتفاقيات التي وقعت مع الخرطوم.
ومطالبة د. «مشار» بوضع عائدات البترول في صندوق خاص تشرف عليه الأمم المتحدة، أعادت إلى الأذهان مطالب للراحل «جون قرنق» في سنوات الحرب بين الشمال والجنوب بوضع عائدات بترول السودان تحت الوصاية والرقابة الدولية، ولكن المستثمرين الأجانب من الصين وماليزيا والهند رفضوا ذلك.. ويعود الفضل للدكتور «رياك مشار» ود. «لام أكول» والفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية 1991م في استخراج نفط الجنوب، حيث بسطت الفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية الأمن والاستقرار في ولايتي الوحدة وأعالي النيل لتتمكن الشركات من التنقيب عن النفط في تلك المناطق، بفضل اتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعت عام 1997م، بين الحكومة والفصائل الجنوبية، وتفتقت عبقرية النخبة الحاكمة في الخرطوم لإبرام اتفاق تحالف إستراتيجي بين (النوير) في الجنوب والحركة الإسلامية الحاكمة في السودان منذ ذلك الحين.
وقد عبر اثنان من قادة (النوير) بزهو وفخر عن ذلك التحالف الإستراتيجي، هما د. «رياك قاي كوك» ود. «رياك مشار»، وتحدث عنه د. «حسن مكي» في مقالات بصحف الخرطوم أثارت ردود أفعال واسعة النطاق حينذاك، وأثمر التحالف استقراراً لمناطق إنتاج البترول ودعماً لموقف الحكومة التفاوضي، حتى تسرب قادة الفصائل الموقعين على اتفاقية الخرطوم للسلام واحداً بعد الآخر عائدين إلى أحضان الجيش الشعبي بقيادة «قرنق» بسبب خلافات مع متنفذين في الحكومة بالخرطوم حول تنفيذ بنود الاتفاقيات.. ولا يزال د. «مشار» و»تعبان دينق» حاكم الوحدة السابق يعتصران في قلبيهما مرارات تلك السنوات، الشيء الذي جعلهما في خندق الصقور الكاسرة في مواجهة الخرطوم، وأقرب للمعارضة التي تسعى للإطاحة بالحكومة من خلال العمل المسلح.. ولكن لعنة النفط اليوم أصابت جسد الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب بالتصدع، وأصبحت براميل البترول واحدة من القضايا موضع الخلاف والمساومة بين د. «مشار» والرئيس «سلفاكير ميارديت».
} موازين القوة على الأرض
{ قبل الجولة المعلنة للتفاوض بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا (الثلاثاء) القادم، فإن القوات الحكومية مسنودة بالمروحيات المقاتلة نجحت في استعادة بلدة (بور) من سيطرة «بيتر قديت» حليف د. «مشار» ومليشيا «ياوياو» التي تمثل (المورلي) في شرق ولاية جونقلي، وسيطرت القوات الحكومية (الخميس الماضي) على مدينة ملكال ثاني أكبر مدن جنوب السودان بعد العاصمة جوبا، ويحتفظ د. «مشار» بمناطق إنتاج البترول ومدينة توريت في شرق الاستوائية، ومن أجل تقوية المواقف التفاوضية قد تشهد الساعات القادمة قبل انعقاد جولة التفاوض عمليات عسكرية هنا وهناك.. ولا تزال أكبر فرقة في الجيش الجنوبي (الفرقة الأولى) المتمركزة في منطقة الرنك بشمال جنوب السودان، تقف في الحياد رغم طوق العزلة المفروض عليها من جهة الجنوب، وحال تمردها على الرئيس «سلفاكير» فإنها ربما شكلت دعماً كبيراً لـ»مشار»، وفي حال وقوفها مع الرئيس الشرعي للبلاد ربما هددت قواعد «مشار» في ولايتي أعالي النيل والوحدة، نظراً لما تمثله الفرقة الأولى من الجيش الشعبي من ثقل، وما تملكه من عتاد عسكري.. دبابات وراجمات صواريخ ومدفعية.. وهي تمثل قلب الجيش الشعبي النابض، وتحظى باهتمام ورعاية من دولة الجنوب، لأن هذه الفرقة موجهة بالأساس للسودان في أيام شبح الحرب التي كانت تخيم على سماء البلدين، وتوجد كتائب صغيرة في البر الغربي لمدينة ملكال، إضافة إلى كتيبة شمال المدينة بالقرب من المطار مقر الكتيبة السابقة (103).. لذلك نجح «رياك مشار» بهجومه على المدينة في السيطرة على أجزاء من المدينة قبل أن تستردها القوات الحكومية (الأربعاء الماضي).. وتتخذ الفرقة الرابعة التي أغلب عناصرها (شمالية) من منطقة بانتيو مقراً لها، وهي الأخرى مزودة بأسلحة متقدمة، وقد نجح « مشار» في استمالتها.. ووجود الجيش الشعبي في جوبا أقرب إلى حراسة كبار الشخصيات ومقار الدولة.. وتشكل المليشيات غالب تكوين الجيش في الجنوب، حيث انضم قادة المليشيات مثل المرحوم «فاولينو ماتيب» و»بيتر قديت» من (النوير)، وقائد مليشيات (المنداري) «كلمنت واني» للجيش الشعبي، ولكنهم احتفظوا بتنظيمهم الخاص داخل الجيش، وظل ولاء هذه المليشيات لقادتها العسكريين، ولم تفلح الحكومة حتى اندلاع الحرب في تأسيس عقيدة قتالية موحدة لجيش قابل للتمزق كما حدث في الأزمة الحالية.. والسيطرة على الأوضاع على الأرض لها علاقة مباشرة بتحسين المواقف التفاوضية يوم (الثلاثاء) القادم.
وفي السودان بين ظهراني دارفور أكبر بعثة للأمم المتحدة في العالم.. ماذا حققت لصالح الأمن والاستقرار؟ بل إن قوات الـ(يوناميد) في دارفور تحميها القوات الحكومية من هجمات المليشيات المسلحة.. ولكن لبعثة الأمم المتحدة دوراً سياسياً، وكثيراً ما تسعى إلى فرض وصايتها على الدول التي تستضيفها.
وقد بعثت الولايات المتحدة بقوة من الـ(مارينز) لحماية الدبلوماسيين الأمريكان في جوبا.. كما شاركت القوات اليوغندية في العمليات العسكرية.. لتصبح أرض الدولة تفيض بالأجانب من كل لون وجنس.
} «سلفاكير» والمؤامرة الناعمة { يتساءل بعض المراقبين عن سقف التنازلات المرتقب أن يقدمه الرئيس «سلفاكير» لصالح التسوية وعودة الصفاء بينه وفرقاء حزبه، وتبدت روح (متسامحة) من الرئيس وهو يخاطب المسيحيين في أعياد الكريسماس وفي قلبه حسرة على مآلات الأوضاع في الدولة، ويعلن التزامه بالتفاوض مع د. «مشار» نائبه السابق والمتمرد «ياوياو».. والقوى الدولية النافذة لا يبدو أنها تقف في الحياد من الطرفين.. والولايات المتحدة والدول الغربية أقرب إلى «مشار» و»فاقان أموم» و»دنيق ألور»، وليس أدل على ذلك من حرص المبعوث الأمريكي على لقاء المعتقلين في محابسهم.. بينما القوى الإقليمية مثل يوغندا والسودان وكينيا أقرب إلى الشرعية ممثلة في الرئيس «سلفاكير»، ويذهب أغلب سيناريوهات الحل لأزمة الدولة الوليدة إلى التراضي حول حكومة انتقالية برئاسة الرئيس «سلفاكير» لمدة عام وبضعة أشهر، تشترك فيها غالبية الأحزاب الجنوبية وبعض الشخصيات المستقلة، على أن لا يترشح الرئيس «سلفاكير» في الانتخابات القادمة ويتنازل لمرشح آخر ليس د. «مشار».ولكن هذه المقترحات ستواجه بعقبات عصية، فالنزاع ليس بين حزبين أو حركتين مسلحتين، ولكنه نزاع داخل الحركة الواحدة ونجم عنه استقطاب حاد ومرارات شديدة، ويقف في مساندة الرئيس «سلفاكير» قطاع عريض جداً من النخب الجنوبية المنضوية تحت سقف الحركة الشعبية أو المتحالفة معها، وفرص «رياك مشار» في خوض الانتخابات القادمة رهينة بتوافق سياسي عريض داخل الحركة الشعبية، وتجاوز الاحتقانات الحالية في جسد دولة الجنوب، حيث تم شحن (بطاريات) إثنية وقبلية وعنصرية، ووظفت في الصراع الأخير.
صحيفة المجهر السياسي
ت.إ[/JUSTIFY]