وفوق كل ذلك، فهي لم تعد لديها القدرة على تتحمل أخطاء المتقدمين بطلباتهم، الجمهور الذي تتعاكل معه، فيعلو صوتها (أنا ما قلت ليكم ما تجوني هنا ورقكم ناقص). حالها مثل الكثيرات غيرها يتأخرن عن عملهن ويسخطن على العملاء إذا جاءوا بمعاملاتهم ناقصة، تدينهم ولا تجد من يدينها، فمن يحترم ساعات العمل؟ سؤال يجاوب عليه هؤلاء. ساعة رضاعة يقول مدثرعبد الله، وهو يتمتم والغصة تطعن في حلقه، يقول بلهجة لاذعة وربما لاسعة: يومياً أحضر إلى مكاتب الجامعة، فالموظفون أضحى دوامهم مثل أطفال الروضة يبدأ في التاسعة وينتهي عند الواحدة، علما بأنهم موظفو حكومة، فأين التوقيت وأين تضيع ساعات العمل (بين السابعة صباحاً إلى الثالثة ظهراً)، أنه سؤال ليست له إجابة، يضيف مدثر، قبل أن يستطرد حكايته، في نصف يومهم هذا ساعة للأكل وساعة للصلاة، وساعة للعمل، وأنت وحظك لو وصلت الشباك، وإن لم تستطع فتابع الغداء، ويواصل الحكاية: أن إحدى موظفات شباك استخراج الشهادات قيل إنها دأبت على التأخر ساعتين وأكثر، وكلما احتج الجمهور باغتتهم بقولها، أنتو ما سمعتوا بالساعة التي تسمى إدارياً بـ(ساعة رضاعة)، والأغرب من ذلك أن أقواماً من الموظفين الرجال، يتأخرون ولا يستطيعون تبرير ذلك إدراياً، بذات ديباجة الموظفة زميلتهم، فيلجأوون لما يسميه المتعاملون شعبياً بـ(الجرجرة) (تعال بكرة أو بعد بكرة) أو ربما بعد شهر. معارك واشتباكات أما عن الأخطاء (فلا تسل يا حبيبي)، تعلق إحدى المتعاملات، وتضيف: وإنما أسال عن تلك الاشتباكات والمعارك والتهديدات التي يرسلها الموظفون في (الأرض) نحو جمهورهم، ولو تجرأ أحدهم وسأل أي منهم (سؤال) محرج عن تأخره ومماطلته مثلاً، أو تقدم خطوة وأرسل شكوى إلى أعلى فالويل والثبور وعظائم الأمور، ومصير معاملتهم السلة والرف. وأردفت (سعاد علي) قائلة: يبدو لي أن مثل هؤلاء يتقاضون مرتبات (حرام)، لأنها ليست من عرق جبينهم، ولأن أي شخص سيُسأل عن عمله يوم القيامة، فلا يوقع هؤلاء أنفسهم في مأزق دنيوي وأخروي. أبعاد شتى من جهته، أكد منتصر ـ موظف حكومي، أنه يتأخر عن عمله يومياً، واعتبر ذلك تقصيراً منه وتسيبا. وأضاف: لكن كما يقول الشاعر (إذا كان رب الدار بالدف ضارب فشيمة أهل البيت كلهم الرقص) فإذا كان المدير يأتي عند الواحدة، فما الذي يجعلني هنا منذ السابعة، ومن الذي يستطيع أن يحاسبني، لا أحد! وأردف: كل شخص يأتي في الزمن الذي يناسبه، ويخرج وقت ما يشاء، وكشف عن أن ضغوط الحياة تجبرهم على ذلك، فالموظف يخرج أثناء ساعات العمل كي يبحث عن مصدر ثان للدخل، وطالب بضرورة معالجة الرواتب ثم نشر ثقافه العمل قبل التوظيف، وأشار إلى أنه ينبغي التعامل من المتسيبين بحزم، دون مجاملات، وأن الأعذار الكثيرة قد تفقد الموظف وظيفته، وفي حالة السودان، فإن الشعب السوداني مجامل قد يغيب الموظف يوما أو اثنين بسبب سماية الجيران، إنها أعذار واهية لكننا لا نعترف بأن هذا خطأ بل تعتبره ميزة إضافية، لذلك فالأمر معقد وشائك وذو أبعاد كثيرة اجتماعية واقتصادية وثقافية (سلوكية).
سقطة أخلاقية إلى ذلك يقول ياسر خير الله ـ طبيب نفسي ـ معروف أن العمل هو جزء أساسي في حياة الإنسان، إذ يحقق له السعادة النفسية بعكس البطالة التي تشعرك بالذل وعدم القيمة، وهناك مَن يصل إلى مرحلة الاحتراق المهني أو الدافعية للعمل، وهناك من يشعر أن العمل أمر ثقيل يقع على كاهله، وبالتالي ينغلق طموحه الشخصي، وفي هذا الوضع نقول إنها حالة نفسية، لأن العمل عند هؤلاء لا معنى له، لا يحقق له طموحه وذاته ومستقبله فمن هذا المنطلق يكره العمل، منهم من يخشى الفشل فلا يستطيع أن يعمل، هناك بعض الناس لا يحاولون ايجاد عمل، يخشون المحاولة ذاتها، هذه بعض الأسباب لكن أشدها حين تنغلق آفاق الطموح داخل الإنسان ويشعر أنه لا قيمة لعمله ولايؤدي عمله إلى تحقيق ذاته، فمثل هؤلاء الناس يفقدون بريق العمل ويفقدون القدرة على التواصل مع العمل، وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى كراهية العمل والابتعاد عنه.
صحيفة اليوم التالي
دُريّة مُنير
ع.ش