سودانير تحت المجهر .. الديون و ملفات الفساد

[JUSTIFY]لا تزال الديون الخارجية تعطل رحلات الخطوط السودانية إلى محطاتها الخارجية كشف مسؤول مطلع صعوبة متابعة الإجراءات القضائية التي تواجه الشركة في محاكم دولة الإمارات العربية المتحدة.

التحقيق يوضح حجم أزمة الديون الخارجية والداخلية التي خلفتها مجموعة عارف الكويتية بعد بيع أسهمها لحكومة السودان وخروجها من الشراكة التي بدأت منذ يونيو ٢٠٠٧, ويكشف التحقيق أن أربعة ملايين درهم إماراتي لا تزال في قائمة الديون الحرجة تنتظرها محاكم الامارات في مواجهة الخطوط الجوية السودانية التي أخلت مكاتبها وأنهت نشاطها في أحد أهم المحطات الخارجية التي ظلت تعمل فيها منذ أكثر من أربعة عقود.

ويشير التحقيق الصحفي لمنع (سودانير) من التحليق في الأجواء والهبوط في المطارات المصرية على خلفية مستحقات فاقت (١٤) مليون جنيه مصري تراكمت خلال فترة سيطرة مجموعة عارف على الغالبية العظمى من أسهم الخطوط الجوية السودانية

هنا لا يصبح الأمر مجرد خسارة.. ولا مجرد نكبة تجارية.. ولا حتى كارثة مالية.. هنا جريمة كاملة الأركان.. وفي وضح النهار وفوق رؤوس الأشهاد.

قد يكون مفهوماً لشركة خاصة يمتلكها فرد أن تمارس ما تشاء من الحجب والستر لأن ذلك في حدود (الخصوصيات) المسموح بها.. لكن شركة يملكها شعب السودان كله على الشيوع.. ملكية مال وتاريخ واسم وشرف دولي.. بأي حق يُحتكر مصيرها؟.. هل لأنها مال يتامى لا حول لهم ولا قوة؟.

مع سبق الإصرار والترصد، هذه جريمة مزدوجة.. ازدحم فيها الفساد المالي مع الكذب والغش والتدليس في رابعة النهار وأمام الجميع.. ومع ذلك لا أحد حتى هذه اللحظة خضع للمحاسبة.. كأنما الكل إما مشارك أو متواطؤ بالفعل أو بالصمت.. إن لم يحرك هذا التحقيق ساكن هذه القضية.. فلا حاجة لأحد أن يذرف الدمع على وطن لا بواكي عليه!.

الحلقة الأولى:

إعلان عادي صغير أثار انتباهي، نشرته صحيفة (إماراتية) قبل حوالي الأسبوعين.. محكمة إماراتية تطلب من الخطوط الجوية السودانية (مجهولة العنوان!!!) المثول أمام منصة المحكمة في الزمان والمكان المحددين.. مختصر نصه كالتالي:

(محكمة دبي الابتدائية.. إلى المدعى عليه: الخطوط الجوية السودانية.. مجهول محل الإقامة..)

الخطوط الجوية السودانية (سوادنير) بعد حوالي (70) عاماً من عمرها المديد أُدرجت في سجلات (مجهول الهوية).. تماماً مثل جثة عُثر عليها في العراء وحُملت إلى المشرحة ووضُعت عليها بطاقة مكتوب عليها (مجهول الهوية)..

من حكم بشنق (الخطوط الجوية السودانية) وتحويلها إلى (جثة مجهولة الهوية) تبحث عنها محاكم إمارة “دبي” في (عنوان مجهول) وتطلب منها المثول أمام منصة القاضي؟.. التفاصيل الكاملة لأغرب قصة جرت كل وقائعها أمام الجميع.. بلا ساتر.. ومع ذلك لا أحد يمثل أمام منصة العدالة ليجيب عن السؤال المخجل شعبياً: من شنق سودانير؟..

التفاصيل مؤلمة تدمي القلوب.. يرجى من أصحاب القلوب الضعيفة الامتناع عن مواصلة قراءة هذا التحقيق الصحفي.

غروب “الشمس المشرقة”..!!

لا أحد يجادل في نصاعة تاريخ الخطوط الجوية السودانية التي تأسست في فبراير عام 1946، وطفرت في دروب الطيران ومطارت العالم وهي تجوب القارات وعلى صفحتها علم السودان كبيراً بألوانه المميزة.

من الممكن لخطوط جوية بكل هذا التاريخ أن تخسر تجارياً لسنة.. أو سنتين أو حتى ثلاثين عاماً متواصلة.. فهنا تصبح عوامل الربح والخسارة هي السبب.. لكن أن تتحول خطوط بكل هذا الاسم العريق، وأمام بصر شعبها وحكوماته المتعاقبة إلى مرتع خصب للفساد غير المستتر.. حتى تسقط مثل ملاكم في حلبة الملاكمة، ثم تنهض بعد أن يضخ فيها الشعب من حر مال فقره المدقع.. فيكون نصيبها ـ مرة أخرى ـ ضربة قاضية فنية تودي بها.. وأمام كل الجمهور.. هنا لا يصبح الأمر مجرد خسارة.. ولا مجرد نكبة تجارية.. ولا حتى كارثة مالية.. هنا جريمة كاملة الأركان.. وفي وضح النهار وفوق رؤوس الأشهاد.

البداية من النهاية..!!

سأبدأ لكم من النهاية.. عكس اتجاه الزمن ثم أعود للوراء بالتدرج (لتخفيف صدمة مشاعركم) ولتستبين الرؤية.

استعادت حكومة السودان ملكية خطوطها الجوية السودانية من (مجموعة عارف) الكويتية في يوم 17/3/2012م. وسجلت لدى المسجل التجاري بالرقم (3626). بعد اتفاق بين الطرفين يقضي بأن تدفع الحكومة السودانية لـ(مجموعة عارف) (125) مليون دولار أمريكي. كيف حصلت (عارف) على أسهم شركة (سودانير)؟ الإجابة مفجعة ضمن خيوط هذا التحقيق الاستقصائي.. لكن، لنتركها قليلاً ونركز على النهايات..

خرجت (عارف) من (سودانير) ويوماً بعد يوم بدأ المستور ينكشف.. تركة ثقيلة خلفتها وراءها من الديون في كل مكان.. واحدة منها هي التي أشرت إليها في المقدمة والتي بموجبها تقف (ٍسوادنير) أمام محكمة إمارة دبي.. وقوف (مجهول الهوية) بلا عنوان.. لأن الخطوط الجوية السودانية أوقفت رحلاتها إلى الإمارات بعد أن خنقتها وطاردتها ثم طردتها الديون الباهظة.

خرجت (عارف) من جسم (ٍسودانير) كما يخرج الجان من جسد الإنسان فيتركه محطماً.. (وللدقة هي دخلت بنفس الطريقة.. كما يتلبس الجان في جسم الإنسان).. الديون المباشرة التي وقعت على كاهل (سودانير) بعد ذهاب (عارف) تفوق الـ(50) مليون دولار.. سأفصلها لكم لاحقاً.. لكن بعد الإجابة عن السؤال المؤلم: (من تولى عملية التسليم والتسلم من “عارف”؟) هل أخطأت عيناه كل هذا الرقم المهول.. ألم ير أكثر من (50) مليون دولار كاملة أخذتها مجموعة عارف نقداً من عائدات تشغيل (سودانير) وتجنبت أن تدفع تكاليف التشغيل التي تراكمت حتى أدت للقبض على طائرات (سودانير) في المطارات الأجنبية.. ومنها مطار القاهرة.. ثم توقفت سودانير عن السفريات الخارجية هرباً من ديونها؟.
هذا نص لخبر طيرته وكالات الأنباء يكشف الحال:

(تعطلت الرحلات الخارجية للخطوط الجوية السودانية بعد خروج طائرتي إيرباص 300 و320 من الخدمة بسبب أعطال واستحقاقات مالية تخص شركات الصيانةالعالمية. واحتجزت طائرة إيرباص 300 مملوكة لـ(سودانير) في مطار القاهرة بعد أن عجزت الخطوط السودانية عن سداد تكلفة الصيانة، بينما تعطلت طائرة إيرباص 320 بمطار جدة. وقال مصدر للوكالة إن شركة البتراء الأردنية سحبت طائرتها التي تستأجرها الخطوط الجوية السودانية لتراكم المديونيات وعجزها عن دفع الأموال).

لا يحتاج الأمر إلى إثبات أن (سودانير) تحولت إلى جثة هامدة بعد خروج الجان من جسدها.

محطة أبو ظبي:

الديون المتراكمة على (سودانير) في محطة أبوظبي تفوق الأربعة ملايين درهم. عبارة عن وقود تمونت به طائرات سودانير عندما كانت مملوكة لمجموعة (عارف). وكانت (عارف) تحرص على سحب كل الأموال التي ترد من عائد بيع تذاكر السفر أو الشحن في محطة أبوظبي بينما تتجنب دفع تكاليف الوقود والمناولة الأرضية وبقية الخدمات. فتراكمت الديون بينما ظلت خزينة مكتب سودانير في مدينة أبوظبي خاوية بسبب سحب الأموال منه أولاً بأول.

نتيجة لذلك امتنعت شركات الوقود عن تزويد طائرات سودانير في مطار أبوظبي.. فاضطرت (سودانير) للجوء إلى الدفع النقدي الفوري مقابل الوقود. وكانت النتيجة فادحة ومدمرة. فنظام الدفع النقدي يرفع التكلفة بمعدل (15%) من السعر العادي. مما زاد من خسائر تشغيل خط أبوظبي بأكثر من (25) ألف درهم خسارة إضافية في كل رحلة. وهو رقم يفوق الربح المتوقع من الرحلة.. مع استمرار الخسائر الفادحة أوقفت (سوادنير) سفرياتها إلى مطار أبوظبي.

في القاهرة.. ذات الموقف!!

لم يكن الأمر بأفضل حالاً في مطار القاهرة.. تراكمت مديونات التشغيل فوصلت إلى (14) مليون جنيه مصري. وكالعادة كانت مجموعة (عارف) تسحب كل عائدات التذاكر والشحن وتتجنب دفع تكاليف الرحلات والصيانة.

العلاقات الودية مع مصر (في عهد الرئيس د. مرسي) لم تمنعها من إصدار قرار بمنع طائرات (سودانير) من الهبوط في مطار القاهرة بل حتى عبور الأجواء المصرية.. حصار كامل.

زار وزير النقل المصري السودان ضمن الوفد المرافق للرئيس د. محمد مرسي. حاول رصيفه السوداني إقناعه بالسماح لـ(سودانير) بالتحليق في الأجواء المصرية. لكن مصر بلد المؤسسات، فاعتذر الوزير المصري بأن الأمر ليس من اختصاصه فهناك وزارة للطيران.
أم الفضائح!!

ASECNA وكالة عالمية معروفة لكل من يعمل في مجال الطيران. مقرها في (داكار) عاصمة السنغال.هذه الوكالة المتخصصة في السلامة الجوية والتحكم في الأجواء مختصة بتحصيل رسوم العبور واستصدار أذونات الطيران فوق سماوات شاسعة في العالم.

كالعادة راحت (سودانير) تتجول في السماوات وتحصل على أذونات العبور عبر هذه الوكالة وتتجاهل سداد الرسوم المقررة دولياً. بمرور الزمن تراكمت ديون هذه الوكالة ولطخت سمعة (سودانير) في المؤسسات الدولية. وأخيراً لم تجد الوكالة العالمية بُداً من (آخر العلاج الكي). هددت بالقبض على طائرات سودانير في أي سماء ومطار دولي تمر به.

خرجت (عارف) من سودانير وهي تعلم تماماً أن مبلغ خمسة ملايين يورو معلق على ذمتها لصالح هذه الوكالة الدولية، وأن طائرات سودانير ستصبح رهائن في قبضة الفضيحة الدولية لحين سداد المبلغ الضخم. من استلم من عارف حينما خرجت.. هل كان يجهل حقيقة هذا الدين المهول؟.. الحقيقة المرة أنه كان يعلم.. ويعلم أكثر أن (سودانير) ستكون معلقة في حبل الحصار الدولي إن لم تسدد.. ومع ذلك لم يطالب (عارف) بالمبلغ.

علماً بأن لجنة التسليم والتسلم كان يرأسها مسؤول رفيع في وزارة المالية.. سآتي على ذكر اللجنة لاحقاً.

وهنا في بيتنا.!!

لكن الديون لم تكن في الخارج فحسب. بل حتى هنا في بيتنا السوداني.. فطائرات سودانير تتزود بالوقود من مطار الخرطوم أيضاً.. ومن باب أولى إن كانت لا تدفع في الخارج فكيف تدفع هنا؟.. بعد خروج “عارف”(اتضح!!!) أنها تركت لنا ديونا لصالح شركة (بتروناس) الماليزية (هنا في الخرطوم) وصلت إلى (22) مليار جنيه سوداني (بالقديم طبعاً).. ظلت طائرات (عارف) السودانية تشرب من وقود (بتروناس) ولا تدفع. بينما عائدات المبيعات تذهب مباشرة إلى أين؟؟ الإجابة ستأتي في سياق حلقات هذا التحقيق.

في موسم الحج انتهزت (بتروناس) الفرصة وامتنعت عن تزويد طائرات (سودانير) بالوقود.. محاولة للضغط لاسترداد الديون. لكن حساسية الموسم جعلت الوساطات (القوية) تتدخل لتنقذ الموقف وتسمح للحجاج باللحاق بالحج.

من أين جاء “هؤلاء!!”؟..

بالتأكيد يثور سؤال ملحاح في ذهن القارئ: من هو أو هي (عارف)؟؟ ومن أين جاء هؤلاء؟ كيف دخلوا؟، وكيف ولماذا خرجوا؟

(مجموعة عارف الاستثمارية) شركة قابضة كويتية يملك غالبية رأسمالها (بيت التمويل الكويتي) أحد أكبر المؤسسات العربية المعروفة في الحقل الاقتصادي. وكانت المجموعة قبل شرائها سودانير – منخرطة في عدة أعمال ونشاطات اقتصادية ليس من بينها إطلاقاً صناعة الطيران. لكن (عارف) لم تمتلك (سوادنير) وحدها فهي تملكت غالبية أسهم النقل النهري في السودان.

في يونيو 2007 (مجموعة عارف الاستثمارية حازت على نسبة (49%) من شركة الخطوط الجوية السودانية). هذا هو مقطع من البيان الرسمي الذي صدر.. لكنه ـ للدقة ـ مقطع من (الكذب الرسمي) البواح الذي مارسته الحكومة في شأن تلك الصفقة الصفعة للشعب السوداني. فسيتضح لاحقاً أن عارف حازت على (70%) من وراء ستار. أفدح تفسير لهذه الكذبة تصريح لمسؤول برر الأمر بأنه (الكذب) ليس مقصوداً به الشعب السوداني بل العالم لأن شروط تسجيل الخطوط الجوية كناقل رسمي للدولة يمنع حيازة جهة أجنبية لأكثر من نصف الأسهم.

صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية نشرت هذا الخبر:

(… وأوضح مدير عام شركة الخطوط الجوية السودانية في حديث لـ”الشرق الاوسط” عقب مراسم التوقيع أن العقد أبقى على نسبة 30 بالمائة من أسهم الشركة باسم الحكومة السودانية، و21 بالمائة للقطاع الخاص السوداني، مبيناً أن الوضع الجديد تأسست بموجبه شركة برأسمال مليار دولار)..

كذب (لا يحتاج إلى بطل) لإثباته.. على نسق عنوان الكتاب الذي أصدره الجنرال الأمريكي شوارزكوف بعد نهاية حرب الخليج الثانية التي تولى فيها قيادة جيوش الحلفاء.. لمصلحة من كان الكذب البواح؟ فـ(مجموعة عارف) حازت على (70%) من وراء ستار.. سندلف إلى تفصيله.

لماذا (مجموعة عارف) بالتحديد وبدون أية خبرة في صناعة الطيران؟؟ ولماذا التستر على حيازتها لغالبية الأسهم؟. قد يكون مفهوماً لشركة خاصة يمتلكها فرد أو أسرة أن تمارس ما تشاء من الحجب والستر على أعمالها لأن ذلك في حدود (الخصوصيات) المسموح بها.. لكن شركة يملكها شعب السودان كله على الشيوع.. وليس أي ملكية، ملكية مال وتاريخ واسم وشرف دولي.. بأي حق يحتكر فرد أو جهة حق التلاعب بها دون أن يطرف له جفن؟. هل لأنها مال يتامى لا حول لهم ولا قوة؟.

على كل.. المفجع ليس في هذه الشراكة وحدها.. المثير الخطر لا يزال في كنف الحلقات القادمة من هذا التحقيق.. أنسوا حكاية (عارف) فهي مجرد بقعة صغيرة.. وانسوا حكاية خط (هيثرو) فقد اتضح أنها مجرد (30) مليون دولار لا تسمن ولا تغني من جوع.. لن تصدقوا التفاصيل والفوادح الأخرى.. لأن كاتب هذه السطور نفسه لم يصدق المعلومات إلا بعد استقصاء أكثر من خمسة عشر مصدراً عالي الموثوقية..

نواصل.. غداً بإذن الله.

صحيفة اليوم التالي
عثمان ميرغني
ع.ش

[/JUSTIFY]
Exit mobile version