ذلك الخطأ الفادح أنتج هذه التجربة الشائعة التي زادت من حدة التفاوت بين الولايات في مستوى الخدمات التي انعدمت أو كادت في كثير من المناطق ولذلك لا غرو أن يستمر نزوح الشعب السوداني نحو العاصمة التي لا يكاد المرء يصدق أنها جزء من السودان بالمقارنة مع عواصم معظم الولايات الأخرى التي تبدو أكثر بؤساً من القرى الطرفية في ريف ولاية الخرطوم وليس ادل على ذلك التفاوت من إحراز ولاية الخرطوم لأكثر من 90% من المراكز الأولى في امتحان الشهادة السودانية وقس على ذلك كل الخدمات الأخرى فما أعظمه من مؤشر خطير ودليل حاسم على الخطأ الذي لا أخاله يولد غير التغابن الذي يعطي المتربصين من لوردات الحرب وغيرهم حجة قوية لنشر ثقافة الكراهية وشعارات التهميش التي تسري بين الناس في هذه الأجواء سريان النار في الهشيم .
هل تعجبون أيها الأخوة أن يكون هدف المليون مغترب اقتناء منازل في الخرطوم بالرغم من أنهم في الأصل ليسوا من أبنائها وهل تعجبون أن تكتنز الخرطوم بالأثرياء الذين يبحثون عن خدمات التعليم الراقي ومستشفيات الخمسة نجوم التي لا يجدونها في عواصمهم المتخلفة وأن يحجم هؤلاء عن إنشاء العمارات والبيوت الفخمة في المدن التي يقيمون فيها خارج ولاية الخرطوم بحثاً عن قيمة أكبر لأموالهم ومساكنهم وهل تستغربون أن تصبح الخرطوم ( مانهاتن السودان ) حيث ناطحات السحاب وأن يصبح شارع النيل منافساً لشارع الشانزلزيه في باريس ؟! وهل تعجبون من إبقاء ولاة الولايات أبناءهم في العاصمة في انتهاك صارخ لكل قيم الحكم الراشد وتقديم المثال والقدوة لرعاياهم المغلوبين على أمرهم ؟!
لم أتحدث عن الفقر والفقراء الذين تئن بهم الخرطوم فذلك أمر آخر ناما عنيت التفاوت من حيث الإمكانات المتوافرة لكل من ولايات السودان مقارنة بالعاصمة .
حق لدكتور المتعافي أن يشمئز عندما طرحت من داخل مجلس الوزراء قبل نحو عشر سنوات في اجتماع القطاع الاقتصادي الوزاري إحداث توأمة بين الخرطوم وبعض الولايات بحيث تُوزع الثروة بالعدل حتى لا تكتظ ولايته بالمهاجرين بحثاً عما يفتقدونه في ولاياتهم ولو كنت مكانه لربما كان رأيي مثل رأيه !
قصدت المقارنة بين الخرطوم اليوم وولايات السودان من حيث المظهر الحضاري وتوافر الخدمات وليس بين خرطوم اليوم وخرطوم الأمس من حيث خدمات التعليم والصحة ففي أيام الطلب في عهدنا كانت المدارس الحكومية المتوسطة ( خامسة أساس ) تزخر بالمكتبات المدرسية التي كانت تسلف الطلاب الكتب العربية والإنجليزية و كنا ندرَّس اللغة الإنجليزية على يد أساتذة إنجليز في المرحلة الثانوية وكانت الدراسة مجانية وما كان المعلمون يركضون خلف تلاميذهم من أجل الدروس الخصوصية حتى يسدوا رمق أسرهم التي تتضور جوعاً اليوم !!
ذلك جزء من أزمة القفزة المجنونة في الهواء التي انسقنا إليها دون وعي والتي تُسمى بالحكم الفيدرالي فقد كان خطأً فادحاً أن نُقدم على هذا النظام بالكيفية التي أُقيم بها في بلاد شحيحة الموارد وتشتعل فيها الحروب التي تسنزف كثيراً من مواردها الضعيفة أصلاً وتعلو فيها النعرات القبلية على الانتماء الوطني .
ما يُثير الدهشة أننا رغم ما أحدثه التقسيم الجغرافي لولايات السودان وقيامه على أُسس خاطئة كرست للتباين والشقاق وأيقظت شيطان الانتماء القبلي بل والعرقي أحياناً على حساب الانتماء للوطن وأوشكت أن تجعل كل قبيلة وطناً قائماً بذاته في حدود ولايته الجغرافية ورغم ما تبين لنا من خلال التجربة السابقة من أخطاء ساحقة ماحقة على الوحدة الوطنية وعلى الأمن القومي وعلى التنمية التي توقفت أو كادت .. رغم كل ذلك مضينا في اتجاه إنشاء المزيد من الولايات على نفس الأُسس التي تمزق ولا ترتق وتفرق ولا توحد مما زاد العبء على المركز المثقل بهموم الأمن والدفاع وإطفاء الحرائق التي تمسك بخناق الوطن وفاقم من مشكلة ضعف الموارد في الولايات وجعل الحكومة المركزية والحكومات الولائية تبذل غاية الجهد في سبيل توفير الأجور الهزيلة للجيوش الجرارة من الموظفين المطلوبين لإدارة تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف المسماة بالحكم الفيدرالي حيث اقتصرت التنمية على مشروعات قليلة يقيمها المركز في الغالب من خلال بعض الوزارات أو الهيئات المركزية المعتمدة على القروض مثل مشاريع الكهرباء والطُرق القومية والسدود والسكة حديد .
أكاد أوقن أن النظام الفيدرالي نشأ بدون دراسة مسبقة بل أكاد اجزم أنها فكرة ظلت تعشعش في عقل د. الترابي منذ مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 وما أن لاحت الفرصة حتى أخرجها من أرشيفه القديم وبدلاً من أن تهدينا تجربتنا المريرة إلى إعادة النظر فيها ها نحن، بفعل المطالب الجهوية والقبلية لا بفعل العقل التخطيطي السليم، نواصل إهدار الموارد وإهلاك وحدتنا الوطنية وإنهاك مقدراتنا وإشعال بلادنا الحزينة فشتان شتان بين ما ابتدعه عباقرة علم الإدارة ( الإنجليز ) وهم يقسمون السودان إلى ست أقاليم وأقزام الإدارة العشوائية عندنا وهم يقسمون السودان إلى 18 ولاية وشتان بين نظام يكتفي بضباط المجالس المحلية ونظام ملأ السودان بالمحليات والمجالس واللجان !!
صحيفة أخر لحظة
رأي : الطيب مصطفى
ت.إ[/JUSTIFY]