أهم إنجاز لي بعد انتقالي للعيش مع أسرة إنجليزية في منطقة تافنيل بارك التابعة لمجلس كامدن تاون، كان إعداد الفول والعدس بكميات تجارية، ووجدت المواد الخام لتلكما الأكلتين في متجر باكستاني، وأعددت في غضون ساعة واحدة «حلّتين/ طنجرتين» منهما، ووضعتهما في الفريزر (الجزء الخارجي من الشباك)، واستمعت بأكل الصنفين أياما متتالية، والسر في ذلك أنني أجيد طبخ الفول والعدس، ودرست وصفات وطرق إعدادهما جيدا قبل وصولي إلى لندن، ولفائدة الجميع سأشرح طريقة إعداد الفول: تنقع حبوبه في الماء العادي نحو ١٢ ساعة، ثم تصفي ذلك الماء، وتكون حبات الفول وقتها قد انتفخت لأن قولونها يهيج عند البقاء في الماء طويلا، ثم تضيف إليه ماء نظيفا وتضعه على النار لما بين ٤٠ دقيقة او ساعة كاملة و.. بالهناء والشفاء.. ولكن وضعه على صحن لأكله يتطلب مهارات عالية، فلابد من وضع بعض الملح والكمون (نسميه في السودان الشمار) والزيت و… خلاص… أما إذا كنت عنصريا ولا تحب السمرة، فبإمكانك وضع بعض العدس في الفول وهي يغلي فيأتي لونه فاتحا.. وإضافة بضع تمرات للفول وهو يغلي يعطيه مذاقا جميلا ويجعل عصارة (ماء) الفول متماسكة، علما بأنها عنصر مهم في مرحلة الأكل، لأنه ينبغي غرف الفول مع بعض الماء، أما العدس فيحتاج إعداده مهارات عالية جدا، وقبل طبخه تغسله من التراب والشوائب وتتركه في الماء ساعات قلائل، ثم تضعه في حلة/ قدر/ طنجرة على النار مع كمية طيبة من الماء، وترمي فيه بصلة واحدة غير مقطعة.. بقشر او بدون قشر، ما تفرقش.. وقبل مرحلة استوائه بقليل تضيف إليه بعض الفلفل والكمون ثم «تتكل على الله»، بس حلاوة العدس في «قدحة الثوم» وهي الثوم المهروس الذي يترك على قليل من الزيت المقلي نحو نصف دقيقة ثم يتم صبه فوق العدس.. فتنعم بوجبة لا نظير لها.
ثم جاءني الفرج الكبير، فقد نجح زميلي وصديقي مروان حامد الرشيد في العثور علي، وكان وقتها يحضر الدكتوراه في الأدب الإفريقي في جامعة لا نكستر، وقادني إلى بيت شقيقه المقداد في منطقة وست هام، فصرت أرابط في بيت المقداد طوال العطل الأسبوعية مستمتعا بالأكلات السودانية: بامية ورجلة (يسميها أهل الخليج بربير) وملوخية وطعمية، وكانت زوجته تجيد إعداد سلطة الباذنجان (الأسود) وكنت مثل معظم أبناء جيلي نمسي الباذنجان «البراطيش»، لأنه كان يقدم لنا مطبوخا في الوجبات المدرسية بالماء والطماطم والبصل، وكانت القطع الكبيرة منه تطفو فوق المرق، وتشبه فعلا بقايا الشبشب المهترئ.. وذات يوم قالت بثينة زوجة المقداد إنها مرهقة وطلبت مني أن أشتري لها الخضراوات من محل قريب، وأعطتني قائمة مكتوبة بالعربية: طماطم وبصل وخس وخيار وجزر وبامية وباذنجان، فقلت لها ما اسم الباذنجان بالانجليزية لأنني لم أكن أعرفه بتلك اللغة فقالت اسمه «ذِس» siht وتعني «هذا».. وشرحت لي كيف أنها عندما لا تعرف اسم شيء معروض في بقالة تشير إليه وتقول إنها تريد «ذِس»، فقررت أنه لا يليق بشخص مسلح ببكالوريوس في اللغة الإنجليزية أن يتعامل بلغة «ذس»، وفتحت قاموس المورد واكتشفت أن الباذنجان اسمه أوبرجين enigrebua وذهبت إلى بائع الخضراوات وطلبت الأشياء المكتوبة على القائمة ثم طلبت أوبرجين، فصاح: وات؟ هناك لجأت إلى «ذس» فقال لي: تقصد الـ (إق بلانت tnalpgge) وعرفت أن أوبرجين «كلمة كبيرة» حتى على الخواجات، وعندما رغبت في شراء البامية قلت له إنني أريد «أوكرا» arko فضحك وقال نحن نسميها أصابع السيدات sregnif sydal، وهكذا تأكد لي أن الإنجليزية التي تعلمناها في المدارس لا علاقة لها بإنجليزية أهل لندن.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]