[JUSTIFY]
تطورات الأحداث المتفجرة، بوتيرتها المتسارعة في جنوب السودان تعكس عدة سيناريوهات أبرزها سيطرة المعارضين للرئيس سلفا كير على الأوضاع وإسقاط حكومة جوبا في غضون أيام قليلة خاصة إذا استمرت هذه التطورات على ما هي عليه دون إعطاء أية فرصة لحلول سياسية ودبلوماسية تعمل على تهدئة الوضع المتفجر والذي تغذيه النعرات القبلية، والصراعات السياسية على الثروة والسلطة، أو أن يتمكن الرئيس سلفا كير من قمع معارضيه وإعادة سيطرته على الأوضاع، أو أن يتمكن الوسطاء الأفارقة من إيجاد تسوية سياسية مرضية لجميع الأطراف المتصارعة على السلطة… وفيما يلي يمكن مناقشة فرص نجاح أي من السيناريوهات الثلاثة وإمكانية حدوثها وفقًا لمعطيات نشير إليها، لكن قبل ذلك لا بد أن نتساءل عن حجم تأثير هذه الأحداث على الأوضاع في السودان خاصة إذا رجحت كفة مناوئي الرئيس سلفا كير وتمكنوا من بسط سيطرتهم على حكم البلاد، وكيف سيكون مستقبل العلاقة بين الخرطوم وجوبا؟ وهل ستعود الأخيرة لدعم وإيواء الحركات المسلحة المناوئة لحكومة الخرطوم؟.. سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة المهمة، لكن بعد استعراض الاحتمالات الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، وتداعياتها:
السيناريو الأول: سقوط جوبا
هناك كثير من المعطيات والمؤشرات وقرائن الأحوال التي تعزز حدوث هذا السيناريو خاصة بعد سيطرة المتمردين على مدن إستراتيجية، وأخرى لها رمزية مهمة في ساحة الصراع القبلي، هذا إلى جانب نقل القتال إلى مناطق حساسة مثل ولاية الوحدة «النفطية» التي تمثل الحبل السري الذي يتغذى به نظام جوبا، مما يشير إلى أن هذه التحركات وراءها عقل مدبر ويخطط لها بشيء من المكر والدهاء، كما أن سقوط «بور» معقل دينكا بور ومسقط رأس الزعيم التاريخي للحركة الشعبية جون قرنق في هذا التوقيت بالذات له دلالات سياسية ورمزية على أن الأحداث التي بدأت انفجاراتها بعاصمة الدولة ومن داخل مقرات الحرس الجمهوري رمز «السيادة» لم تكن عشوائية وإنما مسنودة بـ «فكرة» قوية أشبه بالمعتقدات جعلت سلفا كير أمام تحالف عنيد قوامه «أبناء» قرنق بمشروعهم القديم «السودان الجديد» الذي يعتبر أن الفكرة قابلة للتطبيق حتى بعد انفصال الجنوب، وهؤلاء يرون أن هناك مناطق كثيرة في السودان يمكن أن تصبح جنوبًا جديدًا ومناخًا جيدًا وتربة خصبة لزراعة أفكار السودان الجديد، ولعل هذا ما يفسر حماسة حكومة الجنوب ــ عندما كانت تسيطر عليها هذه العناصر ــ لدعم الحركات المسلحة في السودان، ورعاية قطاع الشمال بعد الانفصال والعمل سويًا معه، وإيواء الجبهة الثورية وتسليحها، ومن أبرز قادة هذا التوجه ربيكا قرنق، وباقان أموم، ودينق ألور، ولوكا بيونق، وإدوارد لينو، أما الشق الآخر من التحالف فهم الناقمون على سياسة سلفا كير الذين يرون أنه مكَّن أبناء دينكا «بحر الغزال» من السيطرة على مقاليد الأمور في الجيش والسلطة، ومن أبرز هؤلاء قبائل النوير، ودينكا «بور».
نقلة خطيرة
هذا التحالف الذي يجمع بداخله كل وزراء الحكومة «الناقمين» الذين أطاحهم سلفا كير، وقادة الجيش الذين أقصاهم، وأبناء قرنق الذين يتهمون «سلفا كير» بخيانة مشروع قرنق و«التنكر» لـ «المناضلين» من قطاع الشمال، وأبناء النوير الموحدين بدوافع الصراع القبلي ومراراته التاريخية ومن خلفهم السياسي البارع الدكتور رياك مشار، و«الداهية» تعبان دينق، هذا التحالف وضع الآن يده مع متمردين كانوا أصلاً يشكلون هاجسًا مريعًا وصداعًا قاتلاً للرئيس سلفا كير، وإذا كان الصراع المسلح ضد سلفا كيرفي الماضي يفتقر إلى القيادة السياسية، فإن دعوة مشار الآن لإسقاط سلفا كير بالقوة تعد دعمًا سياسيًا كبيرًا لصالح المتمردين وإيذانًا بتزعم مشار رسميًا لهذه المجموعات المسلحة، وهذا قطعًا يعني الكثير بما يمثله من نقلة كبيرة في تطور مراحل الصراع في الجنوب.
المرارات القبلية
ويضاف إلى ما تقدم أن الأرضية الآن أصبحت مهيأة للتغيير الذي يسعى إليه هؤلاء وذلك لضعف شعبية الرئيس سلفا كير في أوساط القبائل الجنوبية الأخرى، وسيطرة قبيلته على أمور الدولة واستئثارها بالمناصب والمواقع الأمر الذي شكل رافدًا لتغذية المرارات القبلية والصراع السياسي على الموارد المحدودة.
كثير من المؤشرات الآن تمضي باتجاه سقوط عدد من مدن الجنوب الكبرى وصولاً لمحاصرة جوبا، كما أن الموقف الدولي والإقليمي الآن بما به من إبطاء وضعف يضع جوبا على فوهة البركان المتفجر بسرعة لم تكن متوقعة، حيث اكتفى بصيحة أوباما التي قال فيها أمس: «إن هذا البلد على حافة هاوية الحرب الأهلية والمعارك الأخيرة تهدد وتغرق جنوب السودان مجدداً في الأيام الحالكة التي عاشها بالماضي»..
السيناريو الثاني: إعادة السيطرة
بقراءة متأنية لما بين السطور يدرك المراقب السياسي أن الموقف العسكري للحكومة في أضعف حالاته، وأن هذا الضعف قد أغرى نائب سلفا كير السابق رياك مشار لرفض دعوة الحوار والتفاوض التي نادت بها حكومة جوبا على لسان نائب سلفا كيرالذي أكد استعداد جوبا للتفاوض في أية لحظة ودون قيد أوشرط مع رياك مشار والمتمردين، ووفقًا لكثير من المعطيات فإن إعادة السيطرة على الأوضاع تبدو مهمة صعبة للغاية أما حكومة جوبا فهي تعاني إضطرابات عسكرية وسياسية داخل العاصمة التي اشتعلت في النيران قبل أن تصل للأطراف، ومعلوم أن السيطرة على الوضع يتطلب أولاً القبض على العناصر السياسية والعسكرية المؤثرة في تغذية الصراع، وهذا إذا استثنينا اعتقال باقان وألور فإن القادة المؤثرين التحقوا بالمسلحين، وأصبحوا العقل المدبر والرافد الدافق في أرضية المتمردين، ولا يخفى على أحد هروب عدد كبير من القيادات العسكرية، على رأسهم نائب وزير الدفاع وكذلك السياسيين إلى المناطق التي بسط المتمردون سيطرتهم عليها كبور وجونقلي وحول الوحدة، ولا شك أن وجود شخصية مؤثرة مثل مشار لا يفوت عليه الاتصال بالعالم الخارجي لوضع جوبا تحت التهديدات الدولية إن هي أقدمت على قمع مناوئيها بإطلاق يد الأمن.
السيناريو الثالث: فرص التفاوض
تمثل زيارة وزراء خارجية دول الإيقاد أول المساعي الإقليمية للسيطرة على الأزمة، كما أن الدعوات التي أطلقها الإتحاد الإفريقي للحلول السلمية هي أيضًا من الخطوات التي تعزز التحركات الرامية للتسوية السلمية عبر التفاوض والقنوات الدبلوماسية، غير أن الأحداث الآن تمضي بتسارع مجنون ويتصاعد القتال في عدد من المدن وأن المتمردين يسعون بأقصى سرعة للسيطرة على المدن الإستراتيجية، ومحاصرة جوبا وإسقاط النظام، هذه السرعة القتالية والتحركات العسكرية لا يوازيها تحرك دبلوماسي أو سياسي بذات الوتيرة المتسارعة، فالأمم المتحدة اكتفت بإبداء قلق أمينها العام على التطورات، والغرب اكتفى بصرخة أوباما التي خلت من الدعوة لأي إجراء عملي يكبح جماح العمليات العسكرية الدائرة هنا وهناك واشتعال آبار النفط، وأما زيارة وزراء خارجية الإيقاد فبدت كما لو أنها عملية استكشاف، ويرى أكثر من مراقب سياسي أن التحرك الدولي مازال في مرحلة تفسير ما حدث، وأما التحرك الإقليمي فبدا بطيئًا للغاية في مقابل أحداث تمضي بوتيرة متسارعة.
أما التحرك السياسي على الصعيد الداخلي فقد وضع أمامه مشار متاريس صادمة، وهي رفض التفاوض إلا على رحيل سلفا كير، إذن كل هذه المعطيات تضعف فرص نجاح الحل السلمي على الأقل في الوقت الراهن.
الأثر على السودان
لا شك أن الأمور إذا ما آلت للمعارضة الجنوبية بمكوناتها التي سبقت الإشارة إليها فإن التغيير سيمضي إلى غير صالح السودان، وربما تحدث نكسة كبرى في ملفات فك ارتباط جوبا بقطاع الشمال، وتراجع الترتيبات الأمنية التي قطع فيها سلفا كير شوطًا كبيرًا مع الخرطوم، وربما يشهد ملف النفط تعقيدات جديدة وتسيطر على الحكومة الجديدة فكرة إيجاد بديل للتصدير غير الأنبوب السوداني، وستعود بقوة الاتهامات المتبادلة بدعم وإيواء متمردي البلدين، كل هذه الاحتمالات واردة بدرجات كبيرة، لأن ذهاب سلفا كير يعني عودة التحالف الذي أشرنا إليه بمكوناته وأهدافه، ومشروعه القديم المتجدد، وستعود جوبا لاحتضان كل المسلحين السودانيين والدفع بهم في اتجاه الحرب.
صحيفة الإنتباهة
أحمد يوسف التاي
ع.ش
[/JUSTIFY]