رابح فيلالي: قرنق.. مانديلا السودان الذي رحل باكرا

كنت شاهدا على تلك اللحظة الإنسانية المزدحمة المشاعر والجنوبيون السودانيون يحزمون حقائبهم وتملأ عيونهم دموعا حبست هناك لأعمار من الزمن وهم يهمّون بمغادرة نيروبي باتجاه “جوبا” وما جاورها من مدن قريبة وبعيدة في أعقاب ذلك التوقيع التاريخي على إتفاق سلام بين الشمال والجنوب في ضاحية “نيفاشا” الكينية.

تملأ سماء “نيروبي” في ذلك الصباح الغيوم الشتوية الخجولة حيث لا تمطر هناك السماء إلا قليلا ويرتفع الغبار عاليا وطابور هائل من سيارات الدفع الرباعي يتزاحم من حول مخيم الجنوبيين في الضاحية الجنوبية من “نيروبي” ربما هو المكان الأكثر فقرا في العالم حيث تنعدم فيه معالم الحياة بالكامل ويجتمع فيه العاجزون من النيروبيين على تأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتهم، إضافة إلى ملايين اللاجئين القادمين من دولتين في الجوار مضطربتان بإمتياز: السودان والصومال..

في ذلك الصباح الذي غادرت فيه منتجع “نيفاشا” السياحي في ساعة ليل متأخرة جدا…
كان النوم يهرب ليلتها من عيون الجنوبيين وهم يتطلعون إلى العودة سريعا إلى ديار لم يبق منها شئيا سوى ما يقيم في قلوبهم من ذاكرة و حنين، لكن الذي كان يتكرر في أسئلتي لهؤلاء لم يكن يعني لهم الكثير وربما لايستحق حتى التوقف عنده.

أسئلتي وأنا الشاهد والعابر للقصة وللمكان وللحدث، لم تخرج عن سقف المتوقع في هكذا وضع.. إلى أين ستعودون وأي بيوت ستجدون وإلى أي المدارس ستأخدون أطفالكم و بأي مستقبل تحلمون؟؟

في قلوب الجنوبين حلم تأجل واستعصى على أن يتحقق، لكن الأحلام في الأوطان عادة ما تكون خرافية الألوان.

صحفي الحرة رفقة أطفال جنوب السودانصحفي الحرة رفقة أطفال جنوب السودان
أحدّث البعض منهم عن تلك المشاهد الخرافية الفرح التي أحدثها الجنوبيون في “نيفاشا” في الليلة التي سبقت بألوانهم ورقصاتهم وعصيهم التقليدية وأهازيهجم وكيف انخرط المقاتلون والسياسيون والبسطاء المعمرون في لحظة خرافية التوحد في مشاعرهم وذاكرتهم.

امرأة في الثمانين حملت أثقال السنين والأحلام في الجنوب المستقل على أكتافها وجاءت إلى منتجع “نيفاشا” لتشهد على التاريخ.. رددت لي بلهجة سودانية جنوبية مكسورة أنها جاهزة للموت الآن وبسعادة بعد أن عايشت هذه اللحظة في حياتها ..لحظة تقول إنها تجب كل الذي عاشت وعانت من مآس وحرمان .

رأيت التاريخ وهو يتحرك مزهوا في عيون الجنوبيين وهم يحلمون بتغريدة عصفور في سماء “جوبا” وبمياه النيل الساكنة من حول المدينة وبشجرة “الأناناس” التي تتكرم عليهم بخيراتها من غير حد ولا حساب.

“هناك حياة كاملة في جوبا أنتم لا تعرفونها.. نحن ندركها في بساطتها وعظيم المعنى فيها” .. قال لي الجنوبيون بين كل رقصة وأغنية وغرض يوضع على عجل في الحقيبة.

تركت لهذا الموج الهائل من البشر فرصة الحلم بالغد الجميل وعدت إلى الفندق الذي يتوسط العاصمة “نيروبي” لأخد قسط من الراحة قبل أن أعود مساء عندما تغيب الشمس مرة أخرى في سماء المدينة لمقابلة “جون قرنق” لإجراء حوار كان قد تأجل كثيرا في زحمة المفاوضات مع الشماليين، لكن بعض التأجيل يعطى للأحداث معنى أعمق وأجمل.

على الطرف الآخر من الهاتف يطلبني الصديق ياسر عرمان ليعيد على مسامعي أني سأكون أول صحفي سوف يجري مقابلة مع رئيس حكومة جنوب السودان الجديدة في ظل اتفاق السلام، و النائب الأول لرئيس جمهورية السودان الدكتور “جون قرنق”.

على طول الطريق من “نيروبي” إلى “نيفاشا “وهو طريق مليء جدا بالحفر والمسالك الوعرة والمحاط بأجمل الزرافات والأسود وحتى الذئاب المتسللة في قلب الظلام إلى طرفي الطريق .. كنت أفكر في المستقبل الذي ينتظر جنوب السودان وفي ذاكرتي تلك المقولة الشهيرة التي قالها الفرنسيون لزعيمهم التاريخي “شارل ديغول” إن الذين يصلحون للحرب لا يصلحون للسلم!

السيد نائب الرئيس مبتسما كعادته، كان هادئا وعميقا في معانيه .. كان أكثر تركيزا على السودان الموحد وكان يتحدث على أنه أكثر تمسكا بسودان موحد بكل أطيافه وألوانه بعد التوقيع على الاتفاق أكثر من أي وقت سابق في حياته.

خرجتُ بقناعة عمقية من تلك الضاحية السياحية ومن ذلك الحوار .. قناعة تقول إن السودان سيكون بخير في ظل وجود هذه الروح في “قرنق” وأن الرجل يملك كل الصفا ت التي تجعل منه منقذا وموحدا، بل بلغ بي الحلم مرتفعا إلى درجة القول إن السودان وجد طريقه إلى مانديلا جديد في القارة السمراء.

لسبب تعرفه الثورات وحدها.. أنها تأكل أبناءها دائما وتخون صانعيها ويأكل ثمارها الجبناء دوما .. هكذا تماما فعلت الأحداث بـ”قرنق “.. مات الرجل أو ربما قتل حتى لايزعج التوزيع الحاصل في مواقع ومطامع السودان بخريطته التقليدية، وماتت معه أكبر فرصة لتحديث السودان بصورة أفضل وأجمل من كل الذي حدث في تاريخه.

وعندما غاب ظل “قرنق” لم يكن هناك خيار آخر سوى إقامة ضريح للرجل في مرتفع العاصمة “جوبا” و فتح المجال أمام رجالات الصف الثاني من قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان لإكمال المسار لكن العقيدة لم تكن واحدة.

كان قرنق و حدوي بامتياز وكان ولايزال مساعدوه إنفصاليون بإمتياز.. لم يكن هؤلاء إنفصاليون فقط بل إنهم طامحون في سلطة وجاه ومجد ولو بخراب كل جنوب السودان، وهذا هو تفسير الذي يحدث من اقتتال حول القصر في “جوبا”، وترحيل جديد للسكان وترويع آخر للجنوبيين هذه المرة بسلاح الجنوبيين أنفسهم، وتلك هي عادة الثورات العظيمة.. إنها دائما تولد عظيمة وتموت صغيرة جدا عندما يموت رجالاتها وصانعوها.

رابح فيلالي-الحرة

Exit mobile version