وفى حدود هذه الإفادة …نتساءل عن الحدود الفنية لشهادة الابداع وتقاطعات الذاتية مع الغيرية لطرح روزنامة السيرة الإبداعية من حيث ( الصيغة , الرؤية , الزمن ) ؟؟
هذه التساؤلات تضعنا الآن- أمام الإطروحة الموسومة باشكالية (السرد) بدءًا من تنظيراته وممارساته القرائية التى تعرفنا على ( المناصات ) الإبستيمية حتى تخوم سيمياء النص والأجواء والعواطف وطاقات الدلالة وعلامات التناص .. بُغية إستخراج المقاربات / المفارقات والمجاورات المعرفية .
اليوم ..عرفت السيرة الإبداعية , تطورًا رأسياً على مستوى بنيتها الفنية , لذلك فهى وفق التعريف القاموسى .. تنأى عن السيرة الذاتية فى هذا المقام ( البنِية ) , لتكوين تعريفها الوظيفى الخاص لدى القارىء فى ما يسمى ( إبداع ) . لا من مكوناته فحسب , ولكن من حيث العلاقات بين التكوين والوظيفة لجوهر السياق النفسى والإجتماعى الذى وقعت فيه احداث السيرة الإبداعية وتشابكاتها , وكذلك بالنسبة للمحيط الثقافى الإنسانى . وهى تخوض كذلك بوعىٍ كبير فى الحوار المتعلق بقضايا الصدق والوضوح والتجارب الإبداعية, والذى بمقتضاه يتم فيه تجاوز الاستصغار الذى يُقابل به كل ملفوظٍ صادرٍ عن الأنا وعن كلِ نصٍ يحكى عن الذات المبدعة فى رحلتها داخل العالم .
بالطبع… هنالك فروقًا نوعية ( للسيرة ) يستوضحها الراصد من أجل التأريخ والتعريف والتوثيق وضبط الحقائق .. وبين (السِير) التى يقصد اصحابها إضفاء الصبغة الادبية الخيالية على وقعائهم الابداعية.
هنا تنصهر التداخلات بين مُخيلة الأنا المبدعة وبين الواقع الفعلى كنصٍ سردى.
تضحى السيرة الذاتية اليوم من حيث التعريف الوظيفى.. اعترافاً مدروساً او اعترافاً للنشر .. او- من منحى آخر- نقولاتٍ للتأريخ الشخصى المعترف به من قبِل صاحبه .. حيث يصدق عليها تعريف أحد كبار علماء التحليل النفسى ( هانز ساكس ) الذى يُقِر بأن العمل الأدبى ( حلمٌ إجتماعى ).. بمعنى أنه ينتمى الى عالم الاحلام بما له من جذور شخصية مُغرقة فى ذاتية صاحبها , ومن ناحية نزوعه و تفتحه ومن ثم تشكله .. داخل سياق إجتماعى محدد .. يفرض عليه سياقاته .
إذن .. فالسيرة الإبداعية , ستُمكن القارىء لامحالة من إستيعاب بنائها ورصد خصوصيتها , بصفتها جنسًا سرديًا أولًا وقبل كل شىء .. له مفاهيمه وآلياته التخَيلية والوظيفية , التى تميزه داخل إطار الجنس الروائى ككل.
فأهم مظهريات السيرة الإبداعية – اليوم- هى فى كونها تُحقق للسارد/ الكاتب .. التوافق والإتزان . وان تُيَسر له أن يعيش من جديد- حياته الداخلية / الخارجية عبر ذكرياته ,والكشف عن اسرار حياته الإبداعية وتأملات ذاته المبدعة بما فيها من أثر داخلى .
فالسيرة الإبداعية..وضمن ( تجنيسات النص ) .. تُعدُ جنسًا أدبيًا يتأسس على الثقة وبالتالى جنسًا وثوثقيًا يكون همُ كاتبه , تشييد عقد ( سيرٍ ابداعى ) . ذلك ان العلاقة الذاتية بين ماضى الذكرى.. وحاضر الكتابة / التداعى , تظل علاقة معقدة كثيرة الوجوه . لكن فى الختام .. يُهيمن توقيت الحاضر ( لحظة الكتابة / التداعى ) على زمن الذكرى .
فصاحب السيرة الابداعية , يجعل ذكرياته منسجمة مع آليات اشتغال الجنس( السير روائى ) عبر فعل الاسترجاع .. وهذا مايؤكده الناقد ( محمد أقضاض ) بقوله : ( التخيل الاسترجاعى ليس بنية تفكيرية بعيدة لبيئة الواقع , بل مكملة ومنجزة لها ) وبذلك تصير السيرة الابداعية لفعل التخيل , ضربًا من الاحتيال على زيف الواقع الحالى عندما تُرصد اشراقات الماضى والتخييل. والذى يكون فى الغالب .. محرفًا لواقع نفسانى ماضى .هو ذلك الواقع الذى يستحضره النص.. متداخلا بين الانساق .. لا ينتظمه مسلك ظاهر , وبذلك يظل الانزياح الايجابى على مستوى السيرة الابداعية ..هو غالبًا ذلك الذى تلتقى فيه الهموم الذاتية مع البحث الدائم عن قِيم ايجابية مفتقدة فى الواقع .
إذن .. هوانزياح مُعبِر عن طموحٍ كامل لتصحيح سيرة الحياة الفردية المليئة بالاحباط .. وذلك فى سياق حياة جماعية مليئة بالتطلعات نحو كل ماهو مستقبلى.. مادامت الذات الفردية لا تجد علاجًا حقيقيًا لمشاكلها الخاصة , الا بالتلاحم مع الطموحات الجماعية ذات المضمون الانسانى الشمولى او كما يقول محمود درويش فى نصِه الطاعم ( أنت منذ الان .. غيرك) :
(هل كان علينا أن نسقُط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا… لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء !
أن تُصدِّق نفسك .. أسوأُ من أن تكذب على غيرك ! )
صحيفة أخبار اليوم
[/JUSTIFY]