ندى محمد أحمد .. جمهورية حسين خوجلي

[JUSTIFY]أول انطباع خرجت به من متابعة حلقات «مع حسين خوجلي» هو أن الذين حجبوا البرنامج الناجح بامتياز «صالة تحرير» لو أدركوا الغيب ما أوقفوه، فمعية الأستاذ حسين التي التف حولها السودانيون واحتفى بها الإعلاميون تبدو أشد وقعًا من «صالة التحرير» التي كانت على الأقل تفرد للجهات الرسمية مساحة لبسط رؤيتها في القضايا المطروحة.

الحديث المباشر للأستاذ أتاح له سانحة لا تحتملها مساحة عموده «بألوان» كما أن وقع المزج بين الفصحى والعامية أكثر تأثيرًا عبر الاستماع خاصة أن عباراته التي يرسلها في الشأن السياسي والاقتصادي والقضايا الاجتماعية مشحونة بالصدق الذي مؤاده الغبينة على حال بلاد هي مخزون جبار من خيرات الأرض والسماء، بينما تعيش بؤسًا مقيمًا خيم في المكان والزمان وحفر أخاديده على وجوهنا فتبدَّلت وكأننا لسنا نحن إنما غيرنا، ومن كلماته التي تختصر مقالات حديثه عن أزمة الخبز بقوله «ولاد الذين ما قلتو»، بهذه الكلمات نسف أبرز أركان انتقادات الإنقاذ للديمقراطية الثالثة حول صفوف الخبز والبنزين.. المتابع لحديث الأستاذ حول الحكم والديمقراطية والأحزاب يجد فيه قيمة رفيعة جدًا وهي التحلل من ضيق الانتساب الحزبي والآيدلوجي إلى سعة ورحابة الوطن والفكر على نحو يتجلى فيه البُعد الفلسفي بوضوح، فهو يشير فيما معناه إلى أن السودانيين يحتملون الشيوعية والفكر البعثي الإسلامي على اختلاف طرائقه من إسلاميين إلى أنصار وختمية، فكلنا مزيج من كل ومن المقاصد الجليلة ــ والتي من المفترض أنها طبيعية ــ التي أرسلها القبول بمن يقدمه صندوق الاقتراع بغض النظر عن وجهته الآيدلوجية «إسلامي، شيوعي، بعثي، ختمي، أنصاري».
وفي تقديري أنه ليس لأحد أن يكون قيمًا أو وصيًا على شعب بل ليس في مقدور أحد فعل ذلك مهما حاول، فالأشياء ليست بالضروة هي الأشياء.

قالت لي «أمي»: «ناس الحكومة ديل ما بيسمعوا كلام حسين دا».
فقلت: بالضروة أنهم سمعوا.
قالت: «وبيعملوا بكلامه دا»
قلت: هذا مالا أعلمه ولكن ما أعرفه ممكن البرنامج يقيف.
قالت: «ولو حسين ما وقفوا»
ضحكت وأنا أقول: بسيطة ممكن القناة تقيف.
قالت: ليه؟
قلت: الحق في حرية الاختيار ما بين القبول والرفض هو السبب في ظهور هذا البرنامج وربما توقيفه إذا حدث.

ومن الأشياء التي التفت إليها الأستاذ اهتمامه بقيمة الكلمة المرسلة ولومه للمذيعين بإفراغ الكلمات من معانيها بالتكرار المجدب، وهذه حقيقة، فللكلمة وقع السحر والسلاح، من العبارات التي لفتت نظري مؤخرا «افترار الابتسامة»، لحظتها شعرت أن الشمس بتضحك نصاعة اللغة وجمالها لا تُكتسب بالدراسة والاطّلاع فقط بل بتذوقها ومعايشة الأحداث ومخالطة الناس.
أذكر أني ولدى إحدى التغطيات الميدانية جالت في ضميري معانٍ شتى لخصتها في هذه العبارة «العمل الميداني يقود الصحفي لتحسس مواطن جهله»، وفي كل مرة يشرع الممحاة في وجه ما كان يجهل يطل جهل جديد وهكذا. ومن ظن أنه قد علم فقد جهل.

وعن صدق الكلمة الذي يلعب دورًا رئيسيًا في التأثير وصفت لي بعض القيادات الشابة بالحزب الحاكم حديث الأستاذ بلفظ بليغ قالت إنه حديث «وجدان» وعلى إثر تعجبه من الملايين التي لا تزرع وتنتظر القمح من بلاد الخواجات ودعوته لإقامة «جمهورية الريف والحارة والمدينة»، أذكر وإلى وقت قريب في جنوب الخرطوم هذه كيف لا يخلو بيت من الطيور «جداد وحمام» وأغنام وأحيانًا بط وكيف كانت سرقة الأغنام من الموضوعات الراتبة بين النساء، وكان في حيِّنا بيطري مشهور «عم شاهين» يطبب الأغنام ويُجري لها عمليات جراحية عند الحاجة، أما اليوم فقد اختفت تلك المظاهر تمامًا وحل محلها الحديث عن غلاء رطل اللبن.

كيف تحولنا من بيوت منتجة للبن والبيض واللحوم البيضاء على المستوى المنزلي إلى مستهلكين لهذه المنتجات؟
للأستاذ إدراك عال بقيمة الزمان والمكان والأمكنة والأشياء وإعادة اكتشافها وتسليط الضوء عليها على نحو مدهش مثل قصة الزعيم الوطني عبد القادر ود حبوبة فضلاً عن مقدرة عالية على توليد المعاني، ويتجلى ذلك بوضوح في برامجه الحوارية مثل «مطر الألوان» حتى إن ذائقته الأدبية والفلسفية بالمعاني والأفكار التي يديرها بين ضيوفه عادة ما يكون سقفها أعلى بكثير ممن يحاور على نحو ربما يقارب الإرهاق أو الإحباط، ومن طرائقه في النقد عنوانه «المطلوب القبض على هذا الجنرال» ما زالت الذاكرة تحتفظ به ــ رغم أنها خربة ــ لاتفاق الرأي حول البرنامج المعني، ولأن الشيء بالشيء يُذكر أود أن أشير إلى جنرال آخر هو خبير أغنية الحقيبة عوض بابكر، صادفت أن استمعت في إذاعة ما في حديث عن الحقيبة بعشق استرعى انتباهي لم يكن يتحدث إنما يروي تفاصيل عشقه الخاص، شغلتني هذه الحالة عن الموضوع الذي تناوله ولو أن أيًا منا اهتم بصنعته على ذلك النحو مع قدر معقول من النزاهة والصدق لسدنا العالمين.. ولكن…

وفي ظني أن الصحفيين الذين تنطبق عليهم وصف حالة ــ قلما تجتمع لأحد على النحو الذي هي عليه ــ لدى الأستاذ مثله مثل الشهيد محمد طه محمد أحمد فالصحافيون الموهوبون كثر ولكن قلة هي التي ينطبق عليها وصف حالة، فالأستاذ حالة قوامها شخصية سودانية صميمة توافر لها الاطلاع من وسع وإتقان الصنعة على نحو تتجلى فيه طلاقة الموهبة وتجارب حياتية ومهنية عريضة وفكرة ناضل لأجلها حتى بلغت ذروتها بالوصول لسدة الحكم فضلاً عن حس فلسفي لا يخطئه النظر، تلك السمات وفرت له وعيًا وإدراكًا كبيرين بالقضايا التي يتطرق إليها وتمامة ذلك امتلاكه للأدوات التي تمكنه من الإرسال عبر أسلوب جزل ويختزل مقالات في كبسولات صحفية أدبية لافتة من قبيل «اجتماعات أحزاب المعارضة تجري خارج إطار الحقيقة»، «على الناس أن يتجاوزوا حزب همته عدد الرغيف إلى حزب يعالج أشراف الأمور».

الأحد «24» نوفمبر تابعت الحلقة التي كان جوهرها تجاهلنا على المستوى الرسمي والشعبي والإعلامي ليوم من أهم الأيام الوطنية في مسيرة بلادنا التاريخية، ذلك هو يوم معركة أم دبيكرات واجتياح المستعمر لعاصمة الخلافة أم درمان واستشهاد الخليفة عبد الله التعايشي، لأذكر كلامه ولكني أذكر وقتها كم كرهت البرنامج، إلى هذا الحد نكره الحقيقة المجردة ولا نقبلها إلا إذا تزينت وارتدت فاخر الثياب.. كيف لشعب لا يقدر تاريخه ولا يحترمه ولا يحتفي به أن يصنع حاضرًا يمد من خلاله عين البصيرة ويد العمل لتأسيس المستقبل، كيف بنا وقد صادرنا مستقبلنا بأيدينا؟ كيف بشعب يهبه الله كتاب الحياة وييسر له أسبابها فإذا به ينحّيها جانبًا ويختار كتاب العدم في منتدى كوني يعج بالمتنافسين لاقتناص الحياة واقتناص من أفلتها وأضاعها.. كرهته لأنه ببساطة عرَّانا أمام أنفسنا كشعب وحكومة وإعلام ومنظمات مجتمعات مدني ومؤسسات مدنية ونظامية و«كلو» عري عجزنا عن استفزاز قدراتنا في أن نكون وفقًا لما ينبغي لنا بين الأمم والعالمين وليس وفق فشلنا الذي ترويه كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا على كل المستويات الداخلية والإقليمية والدولية فضحنا أمام أنفسنا على المستوى العام والخاص.

ورغم تمييزه بين خطايانا الفادحة تجاه أنفسنا وتآمر الآخرين علينا يبدو الأستاذ مسكونًا بهاجس المؤامرة، في تقديري أن أعظم مؤامرة تواجهها بلادنا هي نحن، ولولا تآمرنا على أنفسنا لما أفلح الآخرون في نسج مؤامراتهم ضدنا، ومتى استطعنا مواجهة هذا الداء الوبيل تيسر علينا مواجهة تآمر الآخرين فهو في تقديري ليس القضية الأساسية لأن طبيعة الحياة تقتضي ذلك ثم إن التآمر ضدنا دليل على أن لبلادنا قيمة عظمى ونحن كشعب نمثل قيمة أكبر وأعداؤنا يدركون ذلك جيدًا، أما نحن فحدث ولا حرج.
يبقى أن ما شجعني على تسطير هذه التداعيات كلمة قالها الأستاذ لحظتها شعرت بأن جزءًا ما في ركن قصي من الذاكرة أومض كالبرق وتاهت الكلمة لأن سماعي لها نادر ولكنه قالها ثانية.. «قيروانة» أعادتني الكلمة إلى بلدتنا، إلى منبتنا والجذور قيروانة.. قيروانة تمر قيروانة «مويه» قيروانة لبن قيروانة.. ما أسعدني ليس هو الوصف الدقيق للكلمة فقد بدت لي وكأنها فتح لغوي مبهر خاص ببلدتنا رغم شيوع الكلمة، والحق أنها ردتني إلى جذوري ضربة لازب في ثوانٍ استغرقت زمنًا مقداره تاريخ واورت في جذوة حنين قلما يسكن.

ورغم الاهتمام بالمتابعة إلا أن المرء لا يفلت من كماشة الملل ليس بسبب الكلمة إنما لأن النفس تغادر مواطن الاهتمام لتعاوده بروح التغيير وأحيانًا تتجرد النفس ــ عن عمد ــ من هذا الاهتمام تتأمله وربما تعجبت منه ومن دواعيه ولعلها تنظر إليه بعين يعوزها الرضا ثم تعود لتتقمص ذاتها وكأنها لم تنسحب عنه ساعة..

صحيفة الإنتباهة
ع.ش

[/JUSTIFY]
Exit mobile version