بتنا أول ليلة لنا في لندن في فندق «مايتر» في ذات يوم من أغسطس من عام ١٩٧٦، ودارت الأيام، وقدمت إلى لندن في عام ١٩٩٤، لأعمل في تلفزيون بي بي سي، وذات يوم تلقيت اتصالا هاتفيا من زميلتي (سابقا) في مؤسسة الاتصالات القطرية وصديقة العائلة ليلى كردمان من الدوحة تطلب مني حجز فندق لها ولزوجها، لأنهما قادمان إلى لندن لاستكمال إجراءات الهجرة إلى كندا، وجلست أقلب الصفحات الصفراء في دليل الهاتف، وكانت مهمة عسيرة؛ لأن تلك الصفحات التي تخصص في كل البلدان لعناوين وأرقام المؤسسات والشركات والفنادق والعيادات والمنشآت التجارية، كانت في حجم مجلدين من الانسايكلوبيديا بريتانيكا (الموسوعة البريطانية)، وفجأة تذكرت فندق مايتر الذي أكرمنا قبل ١٨ عاما ومنحنا غرفا بأسعار رمزية، وحصلت على رقم الفندق وخاطبت موظفة الاستقبال بإنجليزية فصيحة معربا عن رغبتي في حجز غرفة لشخصين في تاريخ معين، وفوجئت بها تسألني: هل هما قادمان من الخرطوم أم من جهة أخرى؟ عنصر المفاجأة هو أنني لم أقل لها إنني أو من سيقيمان في الفندق سودانيون، ولا أظن أن في الإنجليزية «لهجة سودانية» مميزة، فسألتها لماذا افترضت ان الحجز يتعلق بسودانيين، فكان ردها أنها عرفت ذلك من صوتي.. وأن الفندق «تاريخيا» هو المفضل لدى السودانيين الذين يزورون لندن بسبب علاقات مودة بين صاحبه وجيل كامل من السودانيين.. بس يا بنت الناس عرفتِ أني سوداني من صوتي وليس من طريقتي في التحدث بالإنجليزية؟ قالت: نعم.. بالتعامل المتكرر مع مختلف الجنسيات وخصوصا السودانيين صرت مقتنعة بأن لهم حبالا صوتية تميزهم عن بقية الناطقين بالعربية، وفوق هذا فإن معظمهم يتقنون الإنجليزية بعكس بقية العرب (دا كان زمان طبعا).. وبعد أن التحقت بقناة الجزيرة الفضائية قال لي ثاني مدير لها الأستاذ محمد جاسم العلي في ذات مناسبة: ليش كل السودانيين عندهم حناجر مميزة؟ ثم أضاف قائلا إنه يستطيع ان يميز السوداني من غيره من العرب حتى عبر الإذاعة والكلام باللغة الفصحى.
ما علينا.. صبحنا وصبح الملك لله، واستيقظنا مبكرين، وغادرنا الفندق بحثا عن هاتف عمومي لنتصل بالمعهد الذي جئنا لدراسة الإنتاج البرامجي التلفزيوني فيه، لنبلغه بوصولنا، وعثرنا على كشك الهاتف الأحمر المميز وقضينا نحو ربع ساعة نقرأ تعليمات كيفية استخدامه، ثم حشوته بقطع معدنية واتصلت برقم المعهد، فردت على المكالمة امرأة صوتها يهبل، وكنت خلال السويعات القليلة التي قضيناها ما بين مطار هيثرو والفندق قد أدركت أن إنجليزي لندن غير الإنجليزي الذي تعلمناه في المدارس والذي نلت فيه البكالوريوس، وما أن أنهت كلامها حتى طفقت أحدثها بأننا الطلاب السودانيين الـ…. ولكنها قاطعتني وقالت كلاما لم أفهم منه شيئا، ولما صمتت واصلت الحديث، فإذا بها تقاطعني مجددا فما كان مني إلا أن طلبت منها بكل تهذيب أن تعطيني دقيقة واحدة لأقول ما عندي، ولكنها لم تتوقف إلا بعد أن قالت كل ما عندها، فأعدت المحاولة: نحن المجموعة السو… ولكن بنت الـ…. لم تجعلني أكمل وبدأت في الثرثرة، ففقدت أعصابي وصحت فيها: شط أب، ولكنها رفضت أن «تشط أب».. وبعد المحاولة الخامسة من جانبي والمقاطعة الوقحة الخامسة من جانبها، لم أعرف ماذا أفعل وقلت «الصبر طيب»، ووقفت صامتا وسماعة الهاتف في أذني، فإذا بي أنتبه إلى أنها تكرر جملا معينة، فأرخيت السمع وأنصت جيدا، وسمعتها تقول ما معناه «المعهد لا يفتح أبوابه يوم السبت وساعات العمل اليومية فيه من الاثنين إلى الجمعة من كذا إلى كذا».
يا فضيحتك يا ابو الجعافر لأنك لم تسمع بالـ«آنسر مشين» أي التلفون الذي به تسجيل يرد على المتصل تلقائيا، ولأنك لم تكن سمعت بأن الخواجات صاروا «يعطلون» يومين في الأسبوع هما السبت والأحد، وكانت تلك الواقعة هي المشهد الثاني من صدام الحضارات بعد تجربتي المشينة مع السلالم الكهربائية في مطار هيثرو.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]