وقد أخبرني أحد علماء الإنسانيات السودانيين – ولم يذكر إسمه – أنه مُهتم بما يُعرف بإسم قبائل المسيرية ، وهي قبائل توجد في السودان ، ولا يُعرف هل جاءت من المغرب واستقرت في السودان ، أو أنها جاءت من الجزيرة العربية مع تغريبة بني هلال ، وقد أرسل لي مقالة تبين أن ثمة تشابها بين أهل تهامة وعرب المسيرية .
ويقول أحد المستشرقين الألمان أن قبيلة المسيرية بالسودان أصلها ( المِصريّة ) صُغّرت إلى ( المِصيريّة) ثم خُففت إلى ( المِسيرية ) ولا يهم هل بعض هذه الوقائع حقيقة أو من نسج الخيال ، المهم أنني كنت أشعر بنبض التاريخ من حولي مما ترك أثراً عميقاً فيّ وجعلني مشغولاً به منذ نعومة أظافري .
أُسرتي كانت تنتمي إلى ما يمكن تسميته ( البورجوازية الريفية ) وهي بورجوازية في دخلها وفرديتها ، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة ، أي تعيش في الريف ، فلم تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البورجوازية الحضرية ، وفيما كان يسمى بالأرستقراطية الإقطاعية ( ذات الجذور غير المصرية وغير العربية ) ولذا ظلت هذه البورجوازية الريفية محتفظة بالقيم المصرية والعربية والإسلامية ولم تبحث عن الجاه والأُبّهة .
لابد أن أذكر أنني أنتمي إلى جيل كان ينضج سياسياً بسرعة مقارنة بأجيال هذه الأيام ، فقد كانت لي مواقف سياسية وأنا مازلت بعد في السابعة ، وقد كوّنا أنا وأصدقائي جمعية سرّية لمحاربة الإنجليز ودون شك أنه كان لعب عيال !
أذكر مرة أن أستاذ اللغة العربية طلب مني وأنا في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أن أكتب موضوع إنشاء عن ( حديقة منزلكم ) والإنشاء لم تكن مادة نتعلم فيها كيف نرتب أفكارنا ونحولها إلى كلمات مكتوبة وبنية منطقية متماسكة وإنما كانت قوالب لفظية جاهزة مثل : إن الطبيعة تخلب اللب وتشرح الصدر ثم نرصع مانكتب بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية ، ضقت ذرعاً بكل هذا ، فكتبت موضوع إنشاء أقول فيه ما أحس به ، بدأ الموضوع بتأكيد أن منازل الفقراء ليس لها حديقة ، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق ويعيشون بين أكوام القمامة ، وهاجمت الظلم الإجتماعي بشكل عام ، فأعطاني الأستاذ صفراً على هذا الموضوع وأبلغ أهلي عن كتاباتي الشيوعية ! وبالتأكيد لم يكن لها علاقة بالشيوعية التي لم أكن أعرفها آنذاك أو أي مذهب سياسي ، وإنما كانت تعبيرا عن رفض فتى يافع للظلم الواقع على أعضاء المجتمع .
كان من أهم أساتذتي الأستاذ شفيق مدرس الجغرافيا ، والأستاذ غزلان مدرس الطبيعة ، والأستاذ روفائيل مدرس التاريخ الذي توسّم فيّ خيراً دون أي مقدمات من جانبي أو أي شواهد من سجلي الدراسي ، وأعلن للطلبة أنني عبقري وأنهم يجب ألا يقارنوا أنفسهم بي ، وبدأ يطلب مني أن أكتب أبحاثاً خارج المقرر ، وحين كنت أنتهي منها كان يقرؤها على الطلبة ، الأمر الذي كان يسبب لي حرجاً شديداً وسعادة بالغة في الوقت نفسه ، لم أكن أفهم سر حماسته لي فحتي ذلك الوقت – سنة ثالث ثانوي – كان إحساسي أن ذكائي عادي وربما أقل من العادي ، ويشهد بهذا أدائي المدرسي : الرسوب في السنة الثالثة الإبتدائية والنجاح في الدور الثاني ، مجموع منخفض للغاية في الشهادة الإبتدائية ، وإعادة سنة أولى ثانوي ، الرسوب في السنة الثانية ثانوي والنجاح مرة أخري من الدور الثاني ، ودرجات منخفضة للغاية ، وكُره عميق للرياضيات واللغة الإنجليزية ، ودروس خصوصية في وقت لم تكن فيه مثل هذه الظاهرة معروفة وكنت الطالب الوحيد الذي رسب في مادة الرسم في السنة الأولى ثانوي ، ومع هذا قرر الأستاذ روفائيل أن لدي شيئا ما ، ولذا وجدتني مضطراً إلى ألا أخيب ظنه وأن أقدح زناد فكري كي آتي بأشياء “عبقرية” كما هو متوقع مني ، وتحسّن أدائي الدراسي بعد ذلك بسرعة أذهلتني أنا شخصيا » .
هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email][/SIZE]