الحاضر الغائب ( عبدالوهاب المسيري ) 2

الحاضر الغائب ( عبدالوهاب المسيري ) 2
المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري ، هو أحد أهم وأبرز مفكري العالم العربي والإسلامي لهذا القرن ، ويُعرّف نفسه قائلاً : « إسمي هو عبدالوهاب محمد أحمد علي غنيم سالم عز المسيري .. وحينما شببت عن الطوق بحثت عن أصل عائلتي ، وبطبيعة الحال قيل لنا أننا من الأشراف ، أي من أهل البيت ، وكان أحد أعضاء العائلة يحتفظ بشجرة تبدأ فروعها بدمنهور وتنتهي عند مكة في أيام البعثة المحمدية ، وكانت إحدى علامات الأصالة أن يعرف الإنسان أسماء جدوده .. ومن خلال بعض القراءات عرفت أن أول مسيري مصري كان عالماً فقيهاً جاء من المغرب إلى مصر في القرن السادس عشر ، وأن أحد أفراد أسرة المسيري كان حاكماً للإسكندرية عند إحتلال نابليون إياها ، وأن ابنه استشهد أو قبض عليه في إحدى المظاهرات ضد الفرنسيس ، وقد أورد الجبرتي بعض هذه الوقائع ونقلها عنه الرافعي .
وقد أخبرني أحد علماء الإنسانيات السودانيين – ولم يذكر إسمه – أنه مُهتم بما يُعرف بإسم قبائل المسيرية ، وهي قبائل توجد في السودان ، ولا يُعرف هل جاءت من المغرب واستقرت في السودان ، أو أنها جاءت من الجزيرة العربية مع تغريبة بني هلال ، وقد أرسل لي مقالة تبين أن ثمة تشابها بين أهل تهامة وعرب المسيرية .
ويقول أحد المستشرقين الألمان أن قبيلة المسيرية بالسودان أصلها ( المِصريّة ) صُغّرت إلى ( المِصيريّة) ثم خُففت إلى ( المِسيرية ) ولا يهم هل بعض هذه الوقائع حقيقة أو من نسج الخيال ، المهم أنني كنت أشعر بنبض التاريخ من حولي مما ترك أثراً عميقاً فيّ وجعلني مشغولاً به منذ نعومة أظافري .
أُسرتي كانت تنتمي إلى ما يمكن تسميته ( البورجوازية الريفية ) وهي بورجوازية في دخلها وفرديتها ، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة ، أي تعيش في الريف ، فلم تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البورجوازية الحضرية ، وفيما كان يسمى بالأرستقراطية الإقطاعية ( ذات الجذور غير المصرية وغير العربية ) ولذا ظلت هذه البورجوازية الريفية محتفظة بالقيم المصرية والعربية والإسلامية ولم تبحث عن الجاه والأُبّهة .
لابد أن أذكر أنني أنتمي إلى جيل كان ينضج سياسياً بسرعة مقارنة بأجيال هذه الأيام ، فقد كانت لي مواقف سياسية وأنا مازلت بعد في السابعة ، وقد كوّنا أنا وأصدقائي جمعية سرّية لمحاربة الإنجليز ودون شك أنه كان لعب عيال !
أذكر مرة أن أستاذ اللغة العربية طلب مني وأنا في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أن أكتب موضوع إنشاء عن ( حديقة منزلكم ) والإنشاء لم تكن مادة نتعلم فيها كيف نرتب أفكارنا ونحولها إلى كلمات مكتوبة وبنية منطقية متماسكة وإنما كانت قوالب لفظية جاهزة مثل : إن الطبيعة تخلب اللب وتشرح الصدر ثم نرصع مانكتب بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية ، ضقت ذرعاً بكل هذا ، فكتبت موضوع إنشاء أقول فيه ما أحس به ، بدأ الموضوع بتأكيد أن منازل الفقراء ليس لها حديقة ، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق ويعيشون بين أكوام القمامة ، وهاجمت الظلم الإجتماعي بشكل عام ، فأعطاني الأستاذ صفراً على هذا الموضوع وأبلغ أهلي عن كتاباتي الشيوعية ! وبالتأكيد لم يكن لها علاقة بالشيوعية التي لم أكن أعرفها آنذاك أو أي مذهب سياسي ، وإنما كانت تعبيرا عن رفض فتى يافع للظلم الواقع على أعضاء المجتمع .
كان من أهم أساتذتي الأستاذ شفيق مدرس الجغرافيا ، والأستاذ غزلان مدرس الطبيعة ، والأستاذ روفائيل مدرس التاريخ الذي توسّم فيّ خيراً دون أي مقدمات من جانبي أو أي شواهد من سجلي الدراسي ، وأعلن للطلبة أنني عبقري وأنهم يجب ألا يقارنوا أنفسهم بي ، وبدأ يطلب مني أن أكتب أبحاثاً خارج المقرر ، وحين كنت أنتهي منها كان يقرؤها على الطلبة ، الأمر الذي كان يسبب لي حرجاً شديداً وسعادة بالغة في الوقت نفسه ، لم أكن أفهم سر حماسته لي فحتي ذلك الوقت – سنة ثالث ثانوي – كان إحساسي أن ذكائي عادي وربما أقل من العادي ، ويشهد بهذا أدائي المدرسي : الرسوب في السنة الثالثة الإبتدائية والنجاح في الدور الثاني ، مجموع منخفض للغاية في الشهادة الإبتدائية ، وإعادة سنة أولى ثانوي ، الرسوب في السنة الثانية ثانوي والنجاح مرة أخري من الدور الثاني ، ودرجات منخفضة للغاية ، وكُره عميق للرياضيات واللغة الإنجليزية ، ودروس خصوصية في وقت لم تكن فيه مثل هذه الظاهرة معروفة وكنت الطالب الوحيد الذي رسب في مادة الرسم في السنة الأولى ثانوي ، ومع هذا قرر الأستاذ روفائيل أن لدي شيئا ما ، ولذا وجدتني مضطراً إلى ألا أخيب ظنه وأن أقدح زناد فكري كي آتي بأشياء “عبقرية” كما هو متوقع مني ، وتحسّن أدائي الدراسي بعد ذلك بسرعة أذهلتني أنا شخصيا » .

هنادي محمد عبد المجيد
[email]hanadikhaliel@gmail.com[/email][/SIZE]

Exit mobile version