[JUSTIFY]
ويتحدث أهل الإنقاذ وعرابها عن ثورة التعليم بواقع مناقض تماماً لحقائق نلتمسها ونعيشها، فمنذ فجر الإنقاذ الأول ضج أصحاب الرأي والفهم وقالوا إنهم يريدون أن يصنعوا من السودان أكبر دولة في التوسع الاكاديمي والمعرفي، فانتشرت الجامعات الخاصة وتعددت المسميات، وارتبطت جلها بمدن ومناطق مختلفة وكأننا نتباهى ونتنافس على برامج ترفيهية وثقافية، ولم نضع الخطط والدراسات ونتائج المستقبل السلبية والايجابية لها، وكان كل ما يهم فقط أن نفاخر بالكم !! وحتى الذين اصروا على تلك الثورات التعليمية لا أظن انهم اهل دراية ومعرفة بما هو مطروح، وحتى تلك الجامعات التي فتحت بدون أدنى مقومات فى مناطق بعيدة جداً من العاصمة لم تراع فيها ظروف الدارسين او الاساتذة الذين كان ينبغى أن توفر لهم أبسط مقومات الحياة التى تليق بفهمهم، وقد كانت زيارتي إلى مدينة بغرب السودان فتح فيها أحد أبواب تلك الثورة، والغريبة أن أول كلية بها كانت كليه الطب!! وكان لى احد ابناء عمومتي مررت عليه للاطمئنان، فلم أجد أحداً بتلك الجامعة التى ذاع صيتها، فاتصلت به مستفسراً عن الحاصل. ليفاجئنى بأنهم منحوا إذناً اليوم وبعده لأن المياه عندهم قاطعة، فكيف يكون ذلك وأين الخطط والترتيبات والتأهيل والتأسيس لمثل تلك المشروعات الكبيرة؟ أما إن حاولت أن تراجع نجاح تلك التجارب واستمراريتها فلن تجد إجابة تسعدك!! وإن كان البعض يرى أن التوسع قد أعطى الفرصة لاستيعاب أعداد كبيرة من الطلاب فلا خلاف لى في ذلك، لكن كان الزاماً علينا أن نمرحل التوسع ولو على حساب تقليل تلك الفرص حتى لا نندم على الانتشار غير الموفق. وهناك جهات توظيفية بالخارج تشترط عليك أن تكون شهادة التخرج في جامعات بعينها !! فقد كنت أشارك بعض الجهات فى لجنة لاختيار أطباء لمستشفى سليمان فقيه بجدة، وكان السؤال الذى يبدأ به المندوب السعودي عن الجامعة التى تخرجت فيها المتقدم، وعندما تكرر السؤال لمعظم المتقدمين اوقفنا المعاينات، وحددنا شرطاً أساسياً حسب طلب تلك الجهة بأن يكون الخريج من جامعة الخرطوم او الجزيرة والإسلامية فقط!! فلم يعجبني ذلك التخصيص، وطلبت من الأخ المندوب تفسيراً لذلك، فوجدت أنهم يسمعون كل يوم عن جامعة جديدة بالسودان لا يثقون في ما لديها من شهادات، وبالتالي حددت لهم إدارة المستشفى تلك الجامعات فقط !! إذن هناك انطباع سلبي حتى في الخارج ويترتب عليه كثير من القبول والرفض والشكك فى مؤهلات هؤلاء الطلاب المتخرجين رغم قناعتي بأن هناك طلاباً أميز في جامعات كالفاشر وشندي وجوبا وكسلا والبحر الأحمر والنيلين والرباط والتقانة وغيرها من الجامعات السودانية، ولكن تكمن أسباب النظرة السلبية في تعدد الجامعات بمسمياها المختلفة، اما ان نظرنا للتوسع والفوضى فى مدارس التعليم الخاصة، فإننا نؤكد أن التعليم الخاص فى السودان وتفريط الحكومة فى ادارة ذلك وإن حددت له ادارات حكومية اشرافية فلن يساهم فى ضبط تلك العشوائية والانفلات، فظللنا نرى كل صباح مواقع يتفنن فيها الملاك بالبهرجة والزينة والرسومات واللافتات، ولا يمر يوم او اثنان على اكتمال مبانيها حتى ترتفع فيها «مجموعة مدارس فلان الخاصة» والغريب أنها مدرسة واحدة ولا يوجد غيرها، وصاحبنا وشركاؤه عملوها بشق الأنفس «الباع بيتو والعندو بصل فكاه» وفكروا فى هذا الاستثمار المفيد !! ومضحك جداً أنه في «بويت» في آخر سوق ليبيا وفى منطقة شبه عشوائية ومعظم مبانيها من الجالوص والقش، وجدت بخط مميز بالجير مكتوباً على كل جدرانه « مدارس… العالمية»، وضحكت لأن الاسم المختار لتلك المدرسة لا يتناسب اطلاقاً مع البيئة التى يقطنها هؤلاء، أما ما يعانيه أولياء الأمور فى الرسوم المفروضة والمتزايدة سنوياً شيء لا يجب أن يسكت عليه، فمعظم المدارس الخاصة رسومها الدراسية بمتوسط لا يقل عن أربعة آلاف جنيه للطالب، غير الترحيل ورسوم اللبس والتخريج والرحلات والفوضى غير المنظمه فى المطالبات، ورغم التحذيرات التى تصدر عن الجهات المختصة بعدم طرد الطلاب بسبب رسوم دراسية، فإنك تشاهد وتجد ان الطالب لا يمنح ولى امره حتى فرصة للسداد، ويطرد فوراً، وحتى الرسوم المفروضة لا تتناسب مع الواقع، والمنطق لا يجد لها مبرراً، وأنا أعلم أن هناك بعض المدارس الخاصة يظل الطلاب فيها فى حالة فراغ لساعات طويلة في انتظار معلم المادة الذى يجوب الفصول طول اليوم لعدم تناسب عدد الطلاب مع المعلمين، ولا نجد أدنى رقابة من إدارة التعليم الخاص او غير الحكومي، تلك الإدارة التى أنشئت للإشراف على تلك المدارس وتشديد الرقابة عليها، وذلك بمرور دورى للتقييم، رغم اننى أجد فى ذلك صعوبة بالغة فالمدارس الخاصة الآن فاقت الآلاف، وعدد موظفي تلك الادارة لا يتناسب مع عددها لإجراء مسح شامل، بالإضافة إلى أن تلك المدارس الخاصة كما ذكرت يصعب حتى الوصول إليها، فهى فى مناطق طرفية بالنسبة للعاصمة، أما إن حاولنا الحديث عن الكادر التعليمى المؤهل اكاديمياً وتربوياً، فقد نجد كثيراً من الشواهد التى تجرح البعض، لكن نقولها بكل تجرد وصدق، فهناك من لا نثق فى عرض أماناتنا عليهم من الأبناء والبنات، فبعض تلك المدارس الخاصة تستوعب معلمين ليس لديهم أبسط مقومات الكفاءة او التربية التى نسعى لغرسها فى فلذات الأكباد، ولعل ما نطالعه يومياً من أحداث وقضايا اجتماعية واقعية يجعلنا ندق ناقوس الخطر ونشير بقوة إلى هؤلاء المندسين لهدم القيم والأخلاق، والغريب فى الأمر أن بعض المعلمين تحدث لهم جرائم أخلاقية او تربوية فى بعض المدارس، ويفصلون منها ويحملون اوراقهم، وتجدهم قد التحقوا بمؤسسة تعليمية عريقة أخرى، وما حادث ذلك المعلم ببعيد، وما ظهر فى التحريات عند ارتكابه جريمة هزت المجتمع ليس بعيداً أيضاً، فقد ثبت ان لديه سوابق فى عدة مدارس خاصة، إذن أين الرقابة؟ ولماذا لا يلزم المعلم الذى يرغب فى الالتحاق بهذه المهنة بشهادة حسن سير وسلوك موثقة من الجهة السابقة؟ ولماذا لا يحظر من ثبت ارتكابهم جرائم إخلاقية او حتى إخفاقية فى ذلك المجال الحساس، ويكون الحظر مربوطاً ومشروطاً ومقيداً فى الوظيفة الجديدة؟ وغيرها كثير من الملاحظات السلبية لتلك الثورة التى كنا نحلم بجني ثمارها، رغم أننا نجني الخراب والدمار الآن، فالتأهيل أصبح غير مقنع، والخريج أجوف وخالي الذهن من المعرفة والتحصيل. وتستعجب وأنت تجده لا يفرق بين آسيا وأوروبا، ولا يجيد التخاطب باللغة الإنجليزية ولا حتى بالعربية، ويجهل كل شيء عن الربيع العربي والأنظمة والحكام، والفوضى مستمرة فى زيادة الرسوم بلا رقيب او قانون يحمى الجيوب، والفوضى مستمرة فى منح كل من هبَّ ودبَّ صرحاً واسماً من اجل عمل استثماري نسميه تعليماً خاصاً نتحصل فيه على اعلى درجات الربح، ونؤمن فيه صغارنا ومن نخاف عليهم.
والفوضى مستمرة فى ما يدور فى فناء تلك المدارس والجامعات من اختلاط وفجور وتعاط للمخدرات وتبادل صور فاضحة دون رقابة، والكل منهم لا يهمه التحصيل، فالأمر لا يحتاج لجهد، وسينال الطالب شهادة التخرج لا محالة وبشتى الطرق والدروب، وتلك فوضى أخرى سأتحدث فيها حديث الحقائق والوقائع والإثبات، فلنعد التقييم والدراسة لتلك التجربة الفاشلة بكل المقاييس، ولنحد من الفوضى ونتمسك بالقليل مما تبقى، فإنهم مستقبلنا الذي نحلم به ونور أعيننا التى نبصر بها، ويجب علينا أن نطمئن إلى ما يدور داخل تلك المدارس والجامعات الخاصة التى نرسلهم إليها للتحصيل والتعليم والدراسة، لا للعبث لا للفوضى، لا لغير المؤهلين المأمونين على أبناء يكونون بينهم، لا للزيادات غير المنطقية فى الرسوم، لا للمجاملة فى التقييم والدرجات.. لا للمساومة والمقابل لمنج درجات النجاح والمرور.. لا للمكايدات والتربيتات !! ونعم لتعليم خاص يناسب خصوصية ما ندفع لنميز به أبناءنا.
صحيفة الإنتباهة
ع.ش
[/JUSTIFY]