الجزيرة .. أرض المَحنّة والمحن و “الجنادب”

[JUSTIFY]الطقس بارد جداً هنا، ولكن ما يعتمل في الدواخل يضفي حالة من الدفء الرهيب.. مرّة أخرى هبطنا الجزيرة ونحن نتحسّس الخطى في جغرافيا مأزومة، هكذا تبدو الأشياء؛ ثمّة فقراء لا يتوسدون سوى التراب، هنا الجروف الباكية والملح من أثر الدموع -كما يردد درويش- لا شيء الآن سوى جذوع الأشجار اليابسة و(فلنكات) السكة الحديد المنهوبة.. الترع مكتظة بالحشائش. ثمة أطفال يعبثون بحمار يتضور جوعاً، يركلونه بشدّة دون أن يتحرك.. هو الحال إذن.. بعض النسوة بأسمال بالية يحملن الحطب الجاف على رؤوسهن ليستعضن به عن غاز الطبخ المعدوم، أطلال المشروع تفوح منها رائحة الفصول الميتة.

حراك منقطع النظير قلما يهدأ.. محاولات مستميتة لصياغة المشهد السياسي وتعبئة الوجود بالصرخات.. (شارع الموت) لا يغادر مكانه؛ يتمدّد كالثعبان في السهل الطيني ما بين (فجيعة) سير و(فجيعة) أخرى، الجنادب السامة احتلت الشوارع والبيوت والفضاء والأواني المنزلية، وبات الصغار يسدّون آذانهم بالقطن عند مغيب الشمس ويتحدثون بلغة الإشارة.. الحقيقة أنّ الأهالى تحايلوا على الجنادب ولجأوا إلى فكرة إطفاء المصابيح ليلاً حتى يظن الداخل إليهم أنه يسير في قرى ومدن أشباح، الفائدة الوحيدة من وراء ذلك هي الترشيد الإجباري للتيار الكهربائي.

* أوان التغيير فجأة وعلى غير المعهود خرج الأستاذ عبد الله بابكر، رئيس الكتلة البرلمانية لنواب ولاية الجزيرة، بتصريحات غاضبة من على شاشة قناة (أم درمان)، وأطلق الهواء الساخن من صدره.. عبد الله قال إن الوضع في الجزيرة لا يحتمل، وإن التغيير الشامل هو المخرج الوحيد للنهوض بالولاية، واتهم بابكر والي الجزيرة الزبير بشير طه بالتقصير والإخفاق في تحقيق تطلعات أبناء الولاية ولفت إلى أن الوالي عجز عن انتزاع حقوق الجزيرة من المركز ولم يلجأ إليهم ليعينوه على ذلك، ذات الحديث يتماهى مع صوت تيار عريض، حتى لا ينهد السقف فوق رأس الجميع. * حديث المنبر في نفس الوقت الذي لم يهدأ فيه ضجيج رئيس الكتلة البرلمانية، كانت الولاية تغلي كالمرجل بخصوص خيارات المرحلة المقبلة؛ ثلة من الشباب يدفعون الأمور صوب التصعيد وينتهون بخطواتهم إلى تكوين (منبر أبناء الجزيرة).. المنبر يشهر ديباجة التوق لنيل المطالب، وتلوح الصحف بعريضة الظلم وتجاوز الولاية في التمثيل المركزي، ولكن هل سيتحوّل المنبر إلى حزب سياسي؟ أم أنه سيبقى على ما هو؟ تمضي الترجيحات في الغالب إلى أنه سيبقى حركة ضغط مطلبي تسعى نحو الحقوق المضاعة.. العديد من الأصوات ارتفعت تنادي بضرورة التأكيد على قومية المنبر، وعدم السماح باستخدامه لأي صاحب أجندة سياسية أو فكرية إلا في حدود القضايا والمسلمات التي تهم كل أهل الجزيرة؛ وعلى رأسها المشروع الزراعي والمستشفيات ومياه الشرب وأراضي البطانة والتعليم والمصانع المعطلة، والطرق العاجزة عن حمل الناس والعربات. * أين ذهب هؤلاء ؟ أما الجزيرة (فلا بواكي عليها).. تكاد تعلو هذه العبارة وجوه الناس، أقصى رسائل الملامة للمركز تسأل عن نصيب الولاية في الحكومة القومية بعيد أن رحل من رحل وأقصي من أقصي وترجل من ترجل، نصيب الولاية في المرحلة السابقة كان أربعة وزراء وهم الدكتورة أميرة الفاضل، الدكتور الراحل عبد الوهاب عثمان، الأستاذ محمد أبوزيد المصطفى، الشريف ودبدر، أميرة سارعت بالخروج على نحو غامض وسدت النوافذ خلفها، عبد الوهاب انتقل إلى جوار ربه، محمد أبوزيد استبدل بشخص آخر من ذات الجماعة، أما الشريف فقد خفت صوته وضرب سياج من الصمت حول مصيره، حتى بالكاد يسأل عنها الناس.. لم يبق شيء إذن يعبر عن الوجع الخرافي، ليس ثمة من يكفكف دموع (الترابلة) ويعيد الأمور إلى نصابها في جغرافيا باتت تفتقر للصوت الجهور. * أبرز الترشيحات الولاية تشهد حراكاً سياسياً لافتاً بعيد أن دفع المكتب القيادي للوطني هناك برؤية إصلاحية إلى المركز طالب فيها بمحاسبة المفسدين وتقديم المتورطين في عمليات فساد للمحاسبة وإجراء تغييرات شاملة.. التسريبات رجحت دعم المركز للبروفيسور الأمين دفع الله أحد أبناء الهلالية لخلافة الوالي الحالي الزبير بشير طه، في وقت دفع فيه عدد من المحليات بأسماء مرشحين آخرين من بينها منطقة الصناعات التي سمّت شيخ المك لينوب عنها، شرق الجزيرة اختارت الدكتور عمر محمد علي، بينما اكتفت محلية الكاملين باسمين لامعين وهما الدكتور محمد محيي الدين الجميعابي أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية الذين آثروا الصمت منذ أيام المفاصلة، والآخر هو الأستاذ محمد أبوزيد المصطفى المسؤول السياسي بجماعة أنصار السنة المحمدية، الجناح المشارك في الحكومة.. محمد ليس بعيداً عن شباب الوطني ولا هو بعيد عن ملف الولاية، والاسم الآخر الذي بدأ في التداول هو الدكتور أزهري خلف الله أحد أبناء الولاية الذين دخلوا في خلاف مع الوالي الحالي وحكومته واعتكف بالخرطوم حتى تم تعيينه وزيراً للزراعة بالمركز، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بصعود أي من هؤلاء ليتسنم موقع والي الولاية عقب ترجل الزبير؟ بالطبع ليس بمقدور أحد التجاسر للإجابة، ولا بمقدور أحد نزع الأكفان عن تلك الاستفهامات الموجعة، فالبروف أيضاً لديه أنصاره الذين يشدّون من أزره حتى لا يذهب فيباغتهم مصير أبناء الرجال المحسوبين على الوالي السابق الفريق عبد الرحمن سر الختم.

صحيفة اليوم التالي
عزمي عبد الرازق
ع.ش

[/JUSTIFY]
Exit mobile version