في الذكرى 113 لاستشهاده : فرنسية تعيد رسم الوجه الحقيقي للخليفة عبد الله التعايشي

[JUSTIFY]لتقرير : عائشة سليمان بريمة
في فجر مثل هذا اليوم من عام 1899م خاض المحارب القديم الخليفة عبد الله التعايشي معركته الأخيرة مقاتلا بالسيف والرمح في أم دبيكرات وكانت نيران المدافع والبنادق تحصد صفوف الأنصار، وبعد ساعة ونصف من القتال أدرك الخليفة أن المعركة خاسرة فترجل عن حصانه وأمر أمراءه بأن يفعلوا الأمر نفسه، ثم افترش فروته وجلس متجها نحو الكعبة وبعد هنيهة دوت الطلقات واخترقت صدر المجاهد المهدوي معلنة نهاية حقبة سودانية يطيب لكل قائد أيا كان توجهه أن يستشهد بها.

غير ان سيرة الخليفة عبد الله ، مثلما حدث لشخصيات تاريخية أخرى، تعرضت ولا زالت للتحريف. و لعل من الانصاف لأحد رموز السودان الوطنية نشر شهادة موضوعية عنه في الذكرى 113 لاستشهاده توصلت لها باحثة دؤوبة همها الوصول للحق مهما كانت كلفته وهي الفرنسية الدكتورة فيفيان أمينة ياجي التي كانت رحلة اعتناقها للإسلام دليل آخر على حرصها على الوصول للمعلومة في مظانها الموثوقة.
عرضت الدكتورة ياجي هذه الصورة في كتاب صدر عام 2011 قبيل وفاتها بقليل وكان في الأصل بحث لرسالة الدكتوراه في التاريخ تألفت من 700 صفحة حصلت عليها المؤلفة عام 1990 من كلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانية بجامعة مونبلييه الثالثة بفرنسا، وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الدكتور مكي بشير مصطفى البدري وهو أحد طلابها العديدين بالجامعات السودانية والذي جاءت ترجمته سلسة.

والكتاب أحد أعمال المؤلفة الفكرية العديدة التي ظلت تتحف بها الساحة الأكاديمية والفكرية والثقافية في البلد الذي أخلصت له المحبة والتقدير واندمجت في مجتمعه منذ أن وطئت قدماها أرضه في عام 1955م زوجة للدبلوماسي السوداني الدكتور محمد أحمد ياجي إلى أن التحقت بالرفيق الأعلى.

تقول المؤلفة انها أثناء تنقيبها في الكتابات عن تاريخ السودان لفت نظرها الكثير من المعلومات التي لا يمكن تصديقها عن الخليفة عبدالله، خليفة الإمام محمد أحمد المهدي مفجر الثورة المهدية ضد الحكم التركي المصري بالسودان في عام 1881م، فتساءلت كيف تكون هذه صورة رجل قاوم الغزاة لآخر لحظة؟

فالصورة التي ما زال يحملها الكثيرون، سودانيون وأجانب، عن الخليفة عبد الله ھي صورة حاكم متسلط ومتعطش للدماء،ظالم، شهواني، محب للسلطة، كثير الشك والغيرة على حكمه. فقد كان غرض الانجليز من نشر هذه الصورة الدعاية السياسية وإثارة الرأي العام البريطاني لجعله يتقبل فكرة إعادة فتح السودان تحت مزاعم الثأر لمقتل غردون، وتحرير هذا الجزء من العالم من وحشية الخليفة عبد الله وطغيانه.

أما السودانيون فكانوا يلقون عليه باللائمة لإبعاده آل المهدي من الحكم، وسجنهم ونفيهم أو قتلهم، والكثيرون منهم يسقطون من حسابهم سنوات حكم الخليفة عبد الله. وتقول المؤلفة إن هذا يذكرها بمشهد في مسرحية ” النسر الصغير” الفرنسية حيث مر المعلمان، اللذان كانا يعلمان إبن نابليون مادة التاريخ، على فترة الإمبراطورية سريعاً فسألهما متعجبا ” يا لها من فترة غريبة، ألم يحدث أي شيء خلالها؟”.

وبعد اطلاعها على الوثائق الرسمية والمخطوطات النادرة والخطابات المتبادلة بين المهدي وخليفته ومكاتبات أمراء المهدية تأكدت أن مؤلفات كثير من المؤرخين الأجانب كانت تفتقر للموضوعية وسار بعض المؤرخين السودانيين على طريقهم. ومن هنا قررت أن تدرس هذه الشخصية المهمة في تاريخ السودان دون تحيز ، وأن تلقي الضوء على الجوانب المجهولة منها، وتبين الحقائق فيما يتعلق به من تهم زائفة، أو تبين الظروف الموضوعية المحيطة ببعض قراراته التي أسئ تفسيرها. وبذلت في سبيل ذلك جهدا مضنيا حيث اطلعت على العديد من المؤلفات والوثائق الأصلية في مختلف أنحاء العالم ، وقابلت الكثير من الشخصيات ممن لهم صلة بتلك الفترة ، واستمعت إلى ما لديهم من تجارب شخصية وروايات شفهية سمعوها من أسلافهم ، وزارت المواقع المهمة التي شهدت ذلك التاريخ مثل موقعي معركتي كرري وأم دبيكرات.

ثم صاغت ما توصلت إليه في كتاب تناولت فيه جميع الجوانب المتعلقة بحياة الخليفة عبد الله قبل وبعد ظهور الثورة المهدية، وفترة توليه رئاسة الدولة المهدية عقب وفاة المهدي عام 1885م لمدة 13 عاما رغم الصعوبات حتى سقوطها عام 1898م على يد الجيوش الغازية بقيادة البريطاني هيربرت كتشنر، ثم استمراره في النضال لمدة سنة أخرى حتى قتل وهو يحمل سلاحه على أرض المعركة بأم دبيكرات قرب كوستي بالنيل الأبيض ، مع استصحاب الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بتلك الفترة.

وخلصت الكاتبة إلى تفنيد الاتهامات التي وجهت للخليفة عبد الله كما يلي:
كان قاسيا وبلا رحمة إزاء معارضيه: مقارنة بالطغاة أو زعماء الدول الآخرين في عصره لم يكن الخليفة عبد الله أكثرھم قسوة، لقد اضطر للقسوة على الذين عارضوه، فقد كان مؤمنا مخلصا بالمهدية وكانت أقوال المهدي قانونا لديه. وقد قال عنه المهدي عند فتح الأبيض “جميع ما يفعله بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإذن منا لا بمجرد اجتهاد منه و ليس عن هوى ” وقد كان يشعر انه موجه شانه في ذلك شأن جميع من يعتقدون انهم مسخرون لتنفيذ مشيئة الله وكان يتصرف وفقا لما يعتقد انه إلهام رباني. ولم يكن يقتل رغبة في القتل وإنما حماية لنفسه وسلطته.

وتقول الكاتبة يجب ألا يلام على قسوته تجاه إحدى القبائل السودانية فقد استحقت العقاب لإدانتها بجريمتين كبريين بمقتضى القانونين العسكري والمدني. فقد فر معظمهم من جيش ود النجومي، فأصبحوا بذلك مدانين بتهمة الفرار أمام العدو وكذلك الفرار من الجهاد. ولدى عودتهم إلى ديارھم، استأنفوا أعمال السلب والنهب واستحقوا لذلك عقوبتي الاعدام والقطع من خلاف. فعقابهم لم يكن رغبة في الانتقام وإنما كان الخليفة يطبق القانون. كما ان إحسانه لأسراه من الأوروبيين وعدم قتل أيا منهم يعتبر دليل على رحمته.

كان بغيضا لشعبه: تقول الدكتورة فيفيان انه لو كان مبغوضا من شعبه لانتهزوا الفرصة للتخلص منه عندما دارت عليه الدوائر بهزيمة كرري، بيد ان الذي حدث قد أدهش تشيرشيل الذي قال ان الخليفة عندما وصل إلى الجمع الرئيسي من جيشه المهزوم بعد معركة كرري وجد الذين تبقوا من جيشه مصابين بخيبة أمل و لم يكن بإمكان من معه أن يحموه، ولم يكن مسلحا، وكان لدى جنوده أسباب وجيهة تبرر ذبح ذلك الرجل الذي تسبب في كل ما عانوه من عذاب، ومع ذلك لم يعتد عليه أحد بل وجد السلامة والترحيب بين جنوده والتف حوله الأمراء الذين نجوا من المعركة.

ومرة أخرى عندما علم ان الغزاة في طريقهم إليه في أم دبيكرات أحل الذين تجمعوا معه عن بيعتهم له وعددهم 5 آلاف معلنا لهم انه قرر مقابلة العدو والاستشهاد فرفضوا اغتنام الفرصة وقاتلوا معه حتى النهاية. وبعد وفاته في عام 1899 م أصبح قبره مزارا للناس مما أقلق الإنجليز قلقا بالغا حتى أن مفتش كوستي طلب من حاكم محافظة النيل الأبيض ھدم قبر الخليفة. وحتى اليوم لا يزال قبرالخليفة في أم دبيكرات مزارا يحمل اليه المرضى.

الظلم وحب الاستيلاء على ممتلكات الغير: ھناك حادثتان تؤكدان حرصه على العدل وتكذبان ما يتهم به الخليفة من الظلم. روى إحداھما الشيخ مجذوب مدثر إبراھيم الحجاز والثانية رواها يوسف ميخائيل. يقول الشيخ مجذوب ان خادمة ھربت من سيدها ودخلت بيت الخليفة واحتمت وسط نسائه، فقدم سيد الخادمة شكوى ضد الخليفة عبد الله إلى الشيخ سليمان الحجاز الذي كان حينئذ قاضي الإسلام. فاستدعى الشيخ سليمان الخليفة إلى محكمته وأوقفه هو وخصمه وقال له انه قد أخطأ في حق ذلك الرجل، وأكد الخليفة وجود الخادمة في داره بعد ان استفسر عنها، فأعلن الشيخ سليمان حكمه وهو ردها إلى سيدها، ووافق الخليفة على الحكم. وبعد أن أصدر الشيخ سليمان حكمه غادر مقعده وقال للخليفة “هذا هو القانون وقد انتهت المحكمة.الآن اجلس أنت، فأنت الخليفة، ونحن رعيتك” وأثنى الخليفة على صنيعه وطلب من القضاة أن يكونوا مثل الشيخ سليمان.

وكان لدى زعيم العبدلاب، ناصر ود جمعة، سيفا شهيرا بصرامته وحدته. وسمع الخليفة به وأثار بعض الحساد حفيظته على ناصر. فاستدعاه وطلب منه سيفه. فأعطاه ناصر إياه. فتفحصه الخليفة ثم قال هذا سيف يبدو مثل أي سيف آخر وقد قال لي الناس انه صارم وفريد. فرد عليه ناصر بان السيف كان يخص أسلافه وورثه من أبيه وقتل به أكثر من أربعين شخصا في حرب أبي روف، وهو يقطع بحدته البندقية وحاملها إلى نصفين، ويشهد بذلك عدد كبير من الأنصار والأمراء. فأعاد اليه الخليفة سيفه وقال له: خذ سيفك يا ناصر لأنك رجل أمين ومستقيم. فإن كان الخليفة ظالما كيف يجرؤ رجل على تقديم شكوى ضده وكيف تؤاتي قاضيا الشجاعة على أن يصدر حكما بحقه ويدينه آمرا إياه بإعادة موضوع الدعوى؟ وكذلك الأمر فيما يخص قصة سيف ناصر جمعة الذي أرجعه الخليفة إلى صاحبه رغم رغبته في الاحتفاظ به.

أما حالة الزاكي طمل، فكان الخليفة قد اعتقله ولكنه اكتفى بسجنه حتى يدرس الاتهامات الموجهة ضده. غير ان أوامره تم تجاوزها. وعندما علم الخليفة بموت الزاكي، أمر في الحال أن يحل قاضي الإسلام، أحمد علي، مكانه في السجن وأن يعامل بنفس الطريقة التي عامل بها الزاكي طمل. وفي كثير من الأحيان كان العمال وغيرھم من الموظفين المكلفين يسيئون تنفيذ الأوامر التي يعطيها الخليفة لهم، وكان الخليفة يصل دائما إلى اكتشاف الحقيقة ويطبق عليهم العقاب في الحال.

أما اتهامه بانه كان غيورا على سلطته ومكن أهله فترجعه الكاتبة لاضطراره إلى تقريب أهله الذين هم أهل ثقته بطبيعة الحال، والاعتماد عليهم في إدارة شؤون الدولة في بلد تتربص أعداؤه به من كل جانب، ولم يكن بإمكانه أن يثق في الآخرين الذين كان همهم السلطة ويريدون ، بدرجات متفاوتة، أن تنتقل الخلافة إلى أحد أقارب المهدي وهنا أيضا ينسى الناس بسهولة كبيرة انه خلال حياة المهدي، كانت جميع الوظائف الهامة يحتلها أقارب المهدي ومختلف زعماء قبائل الشمال والجزيرة، ولا يستثنى من ذلك سوى الخليفة عبد الله الذي أصبح، بعد وفاة شقيق المهدي،القائد العام لجميع جيوش المهدي، وأخيه يعقوب وحمدان أبي عنجة وعثمان دقنة.

ولم يكن بوسع الخليفة أن يعوّل إلا على أهله وعلى من راعوا آخر رغبات المهدي واعتقدوا بصدق أن الخليفة عبد الله هو خليفته حقا من سائر القبائل. وهذا هو ما ينساه كل أولئك الذين كانوا يرون أن السلطة بعد وفاة المهدي كان ينبغي أن تؤول إما إلى الخليفة شريف أو إلى أحد الأشراف وينسون ببساطة أن المهدي قبل موته قد تخلى علنا عن الأشراف وتبرأ منهم تماما. كما يتجاهلون المكانة التي كان يحتلها الخليفة عبد الله في حياة المهدي.

وقد كان الخليفة أول من آمن بالمهدي، ومنذ سقوط الأبيض شدد المهدي على دور الخليفة من بعده، واستخدم عندما عينه الكلمات التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة الذي جاؤوا يبايعونه في العقبة: “أنا منكم وأنتم مني” وقال المهدي متحدثا عن الخليفة عبد الله: “هو مني وأنا منه” وأضاف “من عصاه فقد عصاني” ، كما كان يؤم الناس في الصلاة أثناء مرض المهدي مثلما كان يفعل سيدنا ابو بكر الصديق عند مرض النبي صلى الله عليه وسلم.

أما محاولة تصوير الأمر بانه صراع بين أبناء غرب السودان وسكان المناطق النيلية وأدى في النهاية لسقوط الدولة المهدية فتعتبره الدكتورة ياجي تبسيط مخل وتورد أدلة بان الصراع قد يحدث ايضا بين أميرين من قبيلة واحدة أو تحت راية واحدة مما يشير إلى انه تنافس وطموح شخصي لاحتكار القيادة مثلما حدث في بداية حملة مصر حيث تعرض الأمير عبد الرحمن النجومي لشتى انواع المضايقات من عامل بربر ودنقلا محمد الخير عبد الله خوجلي بالرغم من ان كليهما ينتميان لقبيلة واحدة وينضويات تحت راية واحدة هي راية الخليفة شريف فاضطر الخليفة عبد الله للتدخل لفض الخلاف ففصل العمالتين وجعل على بربر محمد الخير وعلى دنقلا ود النجومي. وحدث الأمر نفسه بين أميرين من الراية الزرقاء هما يونس الدكيم وأحمد علي من جانب، ومساعد قيدوم من جانب آخر وثلاثتهم من قبائل الغرب حيث ينتمي الأولان للتعايشة والثاني للهبانية فتدخل الخليفة وفصل أماكنهم.

كما كان الخليفة يضطر في أحيان كثيرة لفض الاشتباك باستدعاء الأمير لأعاصمة أم درمان حتى يتمكن الآخر من أداء المهمة الموكلة إليه مثلما حدث مع يونس الدكيم ومحمد عثمان أبو قرجة حيث استدعى الأول ليتمكن حمدان أبو عنجة من الإعداد لحملة الحبشة واستدعى الثاني حتى يتمكن الأمير عثمان دقنة من شن هجوم على القوات الإنجليزية المصرية في سواكن . كما كان بعض العمال يعصون أوامر القادة مما اضطر محمد ود بشارة مثلا لتسليم دنقلا للإنجليز وتقول المؤلفة ان هذه أمثلة فقط من أحداث عديدة.

ويتهم بالعيش في رفاهية: الذين اتهموا الخليفة بحب الملذات، كانوا قساوسة أو رجالا ذوي عقلية محافظة أو فكتورية يرون أن تعدد الزوجات هو قمة التحلل والفجور. غير ان زيجات الخليفة كانت بسبب سعي القبائل المحيطة به للتبرك به من خلال عقد زيجات معه باعتباره مصدرا للبركة بوصفه خليفة المهدي.

وكان هذا وسيلة لضمان مكانته وتعضيد سلطته في أوساط شتى القبائل. وكان يقتدي في ذلك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفوق ذلك فإن تعدد الزوجات ظل قائما في الشرق وفي أفريقيا. وهذا الاتهام بحب الشهوات، قبل أن يوجه إلى المهدي، ثم إلى الخليفة من بعده، كان قد وجه إلى النبي وامتد ليشمل الإسلام كله وينسون أن الإسلام قد خفض العدد إلى أربع زوجات شرعيات كان عددهن من قبل بلا حدود. (حاشية: ذكر مهدي السيد حفيد الخليفة عبد الله في تقرير صحفي هذا العام ان كبار الموظفين الإنجليز الذي تعاقبوا على السكن في منزل الخليفة بأم درمان ، الذي صار متحفا الآن، أضافوا له الكثير من التحديثات منها الحمام الذي يعمل بالمياه الساخنة والباردة، وكذلك الطوابق و لكن المستعمرون لم يشيروا لهذا الأمر، فأصبحت كأنها شيدت في عهد الخليفة، ولعل هذا قصد منه ايضا الإشارة إلى عيشه في رفاهية).

ويتهم بالجهل: ولكن أبناءه كانوا ينكرون هذه التهمة دوما، فهي لا أساس لها من الصحة. صحيح ان الخليفة عبد الله لم يكن عالما بالمعنى الذي يفهم اليوم ولكنه لم يكن أميا فقد جاء من بيت علم حيث كان أسلافه لعدة أجيال شيوخا معروفين بعلمهم وورعهم. وقد أسس جده ووالده حيثما حلا مدارس لتعليم القرآن ومساجد وكان الناس يطلبون منهما البقاء بين ظهرانيهم لتعليمهم. ويكون من البديهي أن طفلا ينشأ في أسرة من العلماء، لن يكون جاهلا خاصة مع وجود مدرسة قرآنية يتردد الطفل عليها ويكون والده حريصا على تعليم أولاده لحفظ مكانة الأسرة . ويصدق ذلك معلومة معروفة وهي ان المهدي كان قد كلف الخليفة بتعليم نسائه وبناته القرآن، وقد أكد ابنه عبد السلام أن والده كان يكتب بطريقة ورش السائدة حتى اليوم في شمال أفريقيا.

والدليل الذي يذكر لتعزيز فكرة أن الخليفة كان أميا هو انه” لم تصلنا وثيقة بخط يده وانه كان يستخدم عددا كبيرا من الكتاب” وهذا دليل ضعيف للغاية حيث ان من الطبيعي ألا تكون جميع الوثائق قد وصلتنا كما ان استخدام رؤساء الدول للكتاب وإملاء الرسائل عليهم شئ مالوف حتى اليوم ولا يدل هذا على أميتهم.

واتهم بالنفاق، ولكن على العكس تماما كان الخليفة عبد الله مؤمنا متحمسا ومخلصا، كان قلبه يمور باعتقاد عميق واقتناع بصحة المهدية. ولم يكن لديه أي شك في أن محمد أحمد كان هو المهدي المنتظر المكلف من الله بتطهير الأرض من الشر وإقامة العدل. وكان مقتنعا بالطابع الديني لخلافته وان الله تعالى اختاره على لسان نبيه ليكون خليفة للمهدي. وبهذه الصفة كان عليه أن يواصل إكمال ما بدأ المهدي من عمل وتحقيق حلم الفتوحات. وكان واثقا من أن كل الأرض شرقا وغربا ستتبع آثار المهدي وتؤمن بدعوته. ولتحقيق هذا الهدف، جعل من السودان معسكرا كبيرا تنطلق منه جيوش الجهاد المكلفة بتطهير العالم كله من الشر وإعادة الإسلام إلى نقائه الأول. وكان الإيمان هو الموجه الذي قاد كل أعماله وربما كان يكمن ھنا سبب فشله الرئيسي. فالإيمان سلاح ذو حدين، من الممكن أن يكون مصدر إلهام وقدرة على تحقيق المستحيل، ولكن من الممكن أن يكون حاجبا عن رؤية الواقع وصم الآذان عن سماع صوت العقل. وكان عبد الله واثقا في جميع أفعاله من انه يطيع إرادة الله تعالى. ولم يكن يهمه سوى انتصار الدين. وقد رد على عروض ملك الحبشة بالسلام بقوله: عليك أن تسلم أولا وتؤمن بالمهدية، ثم نتحدث بعد ذلك عن السلام. وكانت هذه سمة جميع أفعاله تجاه مخالفيه. ومما يدل ايضا على ان حفظ العقيدة كان كل همه أمره لجميع علماء الدين الذين لحقوا به في طريقه للغرب بعد معركة كرري لمشاركته في القتال أمرهم بالرجوع إلى مناطقهم ومواصلة التعليم فيها حتى لا ينطفئ نور الإسلام والمهدية . وكان الخليفة مقتنعا بأن الله يخاطبه عن طريق النبي والخضر والمهدي. ومن الصعب على الذين يعيشون في عصر من الشك والعقلانية أن يفهموا تلك العقلية. وبالنسبة لكل شخص مشبع بالنظريات العلمية أو شبه العلمية، يكون اعتقاد شخص ما بانه يتكلم نيابة عن الله ويتصرف وفقا لأوامره هو عمل شخص منافق يختفي تحت رداء الدين لبلوغ غايات فردية أو نيل ثأرات شخصية.

وتختم الدكتورة فيفيان ياجي كتابها عن الخليفة عبد الله بذكر صفات عن الخليفة اعترف بها حتى مخالفيه. فالجميع متفقون على انه كان حاد الذكاء ذا عقل راجح وطاقة لا تنفد وشجاعة لا تقهر وكذلك صبر قوي عند الشدائد، أي كان يتسم بجميع صفات البطل العربي المسلم، ولكنه لم يتمكن من جعل السودان بلدا موحدا وقويا فالسودان كان بلدا شاسعا، تسكنه العديد من الأعراق المختلفة ومن الصعب السيطرة عليه سيطرة تامة وربما كان يمكن له أن يفعل ذلك لو أمهله الزمن. ومع ان الجذوة الروحية للمهدية التي كانت هي مصدر قوة المهدية قد انطفأت باستشهاد الخليفة في أم دبيكرات ولكن الفكرة ظلت حية، فقد ظل تأثير المهدية باقيا طوال سنوات الاستعمار الإنجليزي وألهم الحركات الوطنية، وقد بينت المهدية انه يمكن لجميع الأعراق التي تشكل السودان أن تتجمع خلف راية يحركها هدف سام واحد، ناسين كل ما يفرقهم أو يقسمهم فقد كانت جميع قبائل السودان، حضرا وبدوا، ممثلين بعدد قل او كثر في جيش الخليفة. كما أخذت فكرة الأمة تنبثق في عقول السودانيين تدريجيا، وناضل أحفاد من شيدوا الدولة المهدية لضمان استقلال بلادهم.

واستمر الإجلال والتوقير اللذان أحاطا بالمهدي طوال فترة المهدية في الإشعاع في قلوب أبناء الأنصار حتى اليوم . كما ظلت حتى اليوم مثالا لأول حكومة سودانية مسلمة يطيب لكل قائد أيا كان توجهه أن يستشهد بها.

الخرطوم، 24/ 11/ 2013 (سونا)

[/JUSTIFY]
Exit mobile version