ببساطة هناك مافيا تتحكم في تجارة الدقيق وبدأت تملي شروطها حتى على الدولة نفسها، وتتحمل الحكومة هذه الكارثة نسبة لحصرها عملية الاستيراد في جهات محددة وإعطائها تسهيلات وتعاملات تفضيلية، نمت بموجبها هذه المافيا وتوسعت استثماراتها، دون أن تدرك الحكومة خطورة ما فعلته عندما أهملت أهم مشروعات الإنقاذ التي حملتها شعاراتها السابقة بتأمين الغذاء و «نأكل مما نزرع»، وكانت فكرة زراعة القمح والاكتفاء منه وتوفير القوت بعد تمزيق فاتورة استيراد القمح والدقيق، سياسة وتوجهات صحيحة مائة بالمائة، لكن جهات خارجية وداخلية نصبت الفخاخ للحكومة جعلتها تهمل هذا المشروع التحرري الجبار وتتخلى عنه، وتنزلق مرة أخرى في طلب القمح والدقيق من الخارج، وظنت الحكومة أن الاستثمارات الناشئة في مجال المطاحن ستغنيها عن هم توفير الدقيق وإغلاق الباب الذي تأتي منه الرياح العاتية.
ولم تكن الحكومة تتحسب أو تغافلت عن أنه سيأتي يوم تستأسد فيها مافيا الدقيق التي تعلم جيداً أن القمح بات في عالم اليوم سلعة سياسية تستخدم لإخضاع وقهر الأنظمة والشعوب وتنميطها حتى تصبح تابعاً ذليلاً لا حول له ولا قوة!!
هذه الأزمة التي تعيشها ولاية الخرطوم وستمتد لولايات أخرى، ليست ناتجة عن سياسات جديدة لتسعير الخبز وتخفيض أوزانه أو نقص عارض في كميات الدقيق الممنوحة من الشركات العاملة فيه للمخابز، وليست أزمة كذلك بين هذه الشركات وبنك السودان في توفير النقد الأجنبي لمقابلة عملية الاستيراد، بل هي قضية أكبر من ذلك مترافقة مع ما حدث في تقاوي القمح غير الصالحة التي وزعت في ولاية الجزيرة وصارت فضيحة كبرى لوزارة الزراعة الاتحادية، وتم تكوين لجنة لتقصي الحقائق حولها وعن بطء نموها وعدم تحقيقها أية إنتاجية كما هو متوقع وضمورها في مرحلة إنباتها الأولى.
هذا الترابط ليس مصادفة ظرفية، ففي اعتقاد كثير من العالمين ببواطن الأمور، أن التحدي الذي يواجه السودان في مختلف ضروبه السياسية والأمنية والاقتصادية، تتعالى نسبة الخطر فيه عندما يقترب من مأكل الإنسان ومشربه وغذائه، فلقمة العيش المرتبطة بالدقيق والقمح خاصة لسكان المناطق الحضرية، هي مسألة حياة أو موت، فإذا انعدمت لا توجد قوة ستوقف جائعاً، وإذا سقطت الحكومة بين حبائل الصياد سيسهل الإملاء والضغط عليها، ومن يتحكم في قوت الناس هو من يفرض شروطه وقراره في نهاية الأمر، وهنا مكمن الخطر الذي نحذِّر منه.
الأزمة الحالية في الخبز والدقيق والقمح، تحتاج إلى تحرك سريع من كل أجهزة الدولة لتلافي تفاقمها وهي تنذر بخطر كبير إذا استمرت لأيام، وتحتاج إلى تحرك وتفكير أعمق لمعالجة هذا الاختلال ووضع برنامج طويل الأمد وبمنظور إستراتيجي تجند له كل الطاقات الذهنية والبشرية والمادية، للاكتفاء من القمح ومعالجة جذور أزمة الخبز أو تحرير تجارة الدقيق، والبحث عن الطرق الكفيلة لجعل صناعة الخبز وطحن الدقيق مسألةً ميسورةً وفق سياسات وتدابير اقتصادية ومالية وضريبية تقلل التكلفة وتبعد البلاد من الاعتماد على جهات محددة تحتكر هذه التجارة والصناعة.
صحيفة الإنتباهة
ع.ش