والترابي من «شطارتو» وذكائه الخارق حول الحبس الانفرادي إلى «عزف انفرادي».. المهم أطلقت يد الحبس الانفرادي ليحتوي الترابي عرّاب سلطة الانقلاب الجديدة بقسوة دون أن تدري زنزانته أنها تكتم على أنفاس أهم شخصية في الحكومة الجديدة، وما كان السجّانون يدرون أنهم يساقون إلى لعب دور «الكومبارس» في مسرحية لم يقرأوا نصوصها ولم يسمعوا بها ولا في الأحلام.. الترابي يدخل الزنزانة الضيقة جداً وحده ويتمدد على البلاط المتسخ.. ودرجة حرارة الزنزانة تصلي الوجوه.. والعرق يتصبب من الشيخ الذي تجاوز وقتها العقد السادس، بينما أقرانه من قادة الأحزاب الأخرى وبقية السياسيين ينامون على فُرُشٍ وثيرة بطائنها من حرير ويشاهدون التلفاز ويطالعون الصحف… والحال البائس والوضع المهين للترابي داخل زنزانته استفز كلاً من رئيس الوزراء المعزول الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي «زعيما الائتلاف»، فتوسطا لدى مدير السجن بأن يسمح بإدخال «لحاف» للشيخ الترابي، باعتبار أن الرجل تقدم في السن ولا يصح معاملته بهذه الطريقة المهينة، وقيل أن الرجلين «الحنينين» ذرفا الدموع شفقةً على زميلهم الترابي الذي عومل بقسوة وقتها ــ بالمناسبة الناس ديل من زمان طيّبين وحنينين كدى ومساكين وماعارفين إنو خصومهم السياسيين بفكروا كيف ــ وبالفعل نجحت الوساطة في إدخال لحاف فقط بدون أي شيء آخر إلى زنزانة الشيخ حسن الترابي، وتمدد الأخير على اللحاف، ومن فرط ضيق الزنزانة كان الترابي إذا وضع رأسه على طرفها لا يستطيع أن يمد رجليه ولو كان «أبو حنيفة»..
والمثير في الأمر أن الترابي في تلك الزنزانة لم يكن يدري أنه حل ضيفاً علي اربعة «جقور» من الفيران الكبيرة التي تشبه إلى حد كبير فئران مستشفى المناقل الشهيرة تماماً، وما أن غادره الميرغني والمهدي بعد تسليمه اللحاف حتى أنهالت الفيران «تقريماً» و«عضعضةً» على قدمي الشيخ الترابي، فوقع الشيخ فريسة ولقمة سائغة لجموع الفئران التي تداعت لنهشه من كل حدب وصوب… وأمضى الترابي تلك الليلة «محتسباً» ــ محتسباً دي حلوة مُش ــ صابراً من أجل التمكين لمشروعه السياسي في السودان، وكان لزاماً عليه أن يصبر.. وفي اليوم الثاني ورغم شراسة الفئران ومهاجمتها قدميه، إلا أن الترابي افلح في إجراء الاتصالات اللازمة لتأمين الانقلاب، فكان الرجل حسب التوقعات قد شرع في إدارة الدولة وإصدار القرارات الشفهية من داخل معتقله الذي اختاره بنفسه، كما يروي بعض الساسة في مجالسهم الخاصة.
أنا وزميلي الصحافي صلاح المليح كنا قد أجرينا حواراً لصالح جريدة «الشارع السياسي» في أبريل من عام 1999م مع الدكتور عمر نور الدائم نائب رئيس حزب الأمة عقب عودته من المعارضة الخارجية، وسألته وقتها: كيف بالله فاتت عليكم المسرحية دي؟ فأجابنا بأريحيته المعهودة وهو يضحك: «والله نحنا كنا عارفين الإنقلاب ده حق ناس الجبهة، وأنا داخل السجن كنت بقول لـ «أحمد عبد الرحمن» يا أخي عليكم الله بطلوا تمثيل علينا، يا أخي نحنا عارفين الانقلاب ده حقكم، كدى أمشوا طلعوا الترابي ده من الزنزانة.. الراجل ده كبير وما بستحمل المرمطة دي»، وأضاف: «الحكاية والتمثيلية كلها كانت مكشوفة بالنسبة لينا»!!
صحيفة الإنتباهة
أحمد يوسف التاي
ع.ش