الثورية..استشعار خطر الصيف الحار
فضل الله رابح
مع بداية مخاض فتح منابر الحوار بين الحكومة ومتمردي المنطقتين «جبال النوبة والنيل الأزرق»، وبعد إعلان الحكومة انتهاء مهلة وقف العدائيات التي كانت قد أعلنتها من طرفها، بادر تجمع الحركات المتمردة المسمى الجبهة الثورية بهجوم غادر على مدينة أبو زبد بولاية غرب كردفان، هجوم استبق عمليات «الصيف الساخن» التي بدأت القوات المسلحة الانتشار والإعداد لها، والمؤكد أن الهجوم محتمل سيما أن المتمردين قد أشاعوا قبله بيوم أنهم قد دخلوا المحلية واغتالوا معتمدها، وها هم نفذوه ليضعوا تعقيدات ومتاريس جديدة على مسار الحوار ليتمكنوا من خلالها من فرض أجندة أخرى ربما تغيِّر بوصلة الحوار إلى اتجاه مصالحهم. لكن السؤال: إلى متى يظل الإعلام عبر منابره يحذر ويلقن تحذيراته ولا أحد يستجيب سواء من لجان أمن الولايات أو المحليات أو حتى الأجهزة المركزية؟ وفي هذه الصحيفة وقبل يومين فقط حذرنا من عدم استسهال وتحقير جولة قادة التمرد في أوروبا والاحتفاء بعدم مقابلتهم لأي مسؤول أوروبي، وقلنا إن هؤلاء مخادعون سواء كانوا الغربيين أو المتمردين، لأن المتمردين استلموا أسلحة ومعدات أمريكية ويخططون لفعل تخريبي خلال هذا الصيف. وأن جولة أوروبا وحديث «عقار» لقناة «العربية» أكبر خدعة لصرف الأنظار عن حدث قادم، وها هو يطبق بحذافيره وتهاجم أبو زبد، ويتم تدمير البنية التحتية في الكهرباء ومنشآت المحلية الحيوية الأخرى، كل هذا يحدث وإستراتيجية هؤلاء الخارجين معروفة، فلماذا لا يقطع الطريق أمامها بتحصينات عسكرية ومجتمعية تمنع وقوع الحدث في الأصل؟ إن خطة هذه العصابات هي الوصول للهدف حتى ولو خرجوا منه بعد نصف ساعة لتحقيق خطاب إعلامي ليس إلاّ.. نعم ربما استشعر الثوريون خطر الصيف الحار الذي وعدتهم به السلطات الحكومية وشرعت فعلياً في تنفيذه على الأرض، حيث قاموا بالهجوم الاستباقي على أبو زبد، وهي خطة في ظاهرها ترسم معالم نشاط عسكري ناجز لكنه في الحقيقة عمليات هروب مبكرة من المواقع التي ظلت تسيطر قوات التمرد عليها منذ عمليات أبو كرشولا، فهي بعد هروب الذين نجوا من تلك المقصلة تمركزت في الجبال الغربية لجنوب كردفان في منطاق كجورية والكارقو والمنادل والصبي وهي مناطق لا تبعد كثيراً عن مدينة أبو زبد، وإن أقرب منطقة لها لا تتجاوز «27» كيلومتراً، فلماذا لم يتم الاعتداء على أبو زبد إلا في هذا التوقيت؟ واضح أن هناك نزوعاً نحو الاستعجال بهذه الخطوة رغم إدراك التمرد أنها قد تنسف جهود السلام والحوار أو تكلفهم خسائر بالغة الكلفة، إلاّ أنهم أقبلوا عليها علها تخرجهم من الإحباط العام الذي يسيطر عليهم بعد هزيمة الرواية الثورية للتغيير عبر سنان السلاح وصعودهم على السلطة بأحلام المعارضة.
وعلى مدى زمني ليس بالقصير نفذ المتمردون عمليات نهب في عدة محاور منطلقين من هذه المناطق المكشوفة وتسهل مهاجمتها من القوات الحكومية، سيما أنها جبال معزولة، لكن يبدو أن القوات المسلحة لا تنوي بلوغ الخلاصات والنتائج بشكل متعجل خاصة أنه سبق في عام 1996م أن سيطرت القوات المسلحة وحققت انتصارات كبيرة على التمرد بقيادة العميد إسماعيل كاكوم، والملازم حينها العميد حالياً عبد الله الشريف مدير جهاز الأمن والمخابرات بشمال كردفان، وكان قائد المنطقة العسكرية الوسطى الفريق إبراهيم الرشيد، فكانت القوات المسلحة خلال أسبوع فقط قد أحدثت تطوراً كبيراً وأحكمت سيطرتها على مناطق كجورية وجبل الأغر وكتلة وتيمين وتابيلا وجلدات، وكانت طائرة الشهيد إبراهيم شمس الدين تهبط كل أسبوع بمدينة الدلنج ويلتقيه محافظها عبد الجبار حسين ووالي الولاية أحمد حبيب مختوم الذي كان يشرف برفقة معاونيه على التخطيط والتنسيق مع القوات، وعلى رأسهم مولانا أحمد محمد هارون، وبانتصارات القوات المسلحة المتجددة دائماً ترتسم معالم سياسات جديدة وخرائط وملامح خطوات مقبلة، ومثلما كانت انتصارات «كاكوم» قد انتزعت رغبة المتمردين على السلام، وبطبيعة الحال فإن الهجوم على أبو زبد وعلى تقاطعات الحديث حوله لا يمثل سوى هروب بعد انسداد الطرق على التمرد ومحاولات الحسم التي ابتدرتها القوات المسلحة بتصعيد عملياتها لإعادة السيطرة، وهي الخطوة التي ربما لم يتسع لها صدر المتمردين، ويضاف إلى ذلك حالة التشتت لقوى التمرد والخلافات التي بدأت تعصف بهم في كل منابرهم وجبهاتهم.
الجبهة الثورية.. فقر المنطق!!
واقع الحال أن المتمردين عمدوا إلى تنفيذ عملية على عكس سابقاتها من عمليات الإرهاب حيث دخلوا (أبو زبد) وهي من أكثر المناطق المأهولة بالسكان، وينحدر منها أحد قادة الجبهة الثورية محمد البليل عيسى زياد. وذلك وصولاً الى خطاب إعلامي وسياسي، والاستفادة من هذه المناطق لأنهم يدركون الكثافة السكانية العالية التي يمكن استخدامها دروعاً بشرية لتصعيد عملية التعامل معها من قبل القوات المسلحة والأجهزة الأخرى. إن خطوة التمرد هذه تمثل هزة كبيرة في خطابها وهي تبدي عجزاً كبيراً اضطرها للتحرك في مساحات الخطر، والتحول نحو توسيع دائرة الفوضى وتصعيد عمليات حرب العصابات العشوائية المتطرفة وزعزعة الأمن والاستقرار، وإحداث خلخلة في بنية النظام الداخلي للمجتمع والدولة.
وما يعيشه التمرد من تخبط يجعل المواطن أكثر نزوعاً نحو الرفض لطرحه المتناقض وتقليص مساحات التعاطف معه بشكل مطرد.
مأساوية الواقع.. وتقاطعات الشعارات
وبطبيعة الحال فإن المواطن أكثر حرصاً على ممتلكاته في البنية التحتية، وذلك ما بدأ به التمرد عمليته في الهجوم على أبو زبد، وهي تدمير المحطة التحويلية لكهرباء المدينة ومركز الشرطة ونهب البنوك والاعتداء على ممتلكات المواطنين، وهي خطوة لا تنفصل عن نهج الجبهة الثورية في الممارسة التي ابتدرتها في أم روابة وأبو كرشولا. فها هي تبدأ بها عمليات الهروب الكبير ليتحول المواطن إلى مدافع عن مقدراته ومؤسساته جنباً إلى جنب مع القوات النظامية، ولم يجد المهاجمون مفردة أو لغة ليسدوا بها هذه الفجوة النفسية بينهم وبين المواطنين الذين يرون في خراب ممتلكاتهم خطاً أحمر، وهو أمر استدعى أبناء المنطقة وكيانات الولاية بالمركز إلى حركة جماعية ابتدرها والي الولاية اللواء أحمد خميس بجولات ما بين القصر والقيادة العامة لاطلاع القيادة على حقيقة الأوضاع وترتيب وتنسيق المواقف حيال ما تعرضت له المنطقة من غدر، بينما تجمع أبناء المنطقة في دورهم واتحاداتهم الأهلية وأعلنوا الوقوف مع ذويهم في محنتهم مقدرين ما تقوم به القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وقال المهندس إبراهيم شمر نائب رئيس القطاع الغربي لولاية غرب كردفان بالاتصال التنظيمي للمؤتمر الوطني إنهم بوصفهم أبناء للمنطقة اجتمعوا وأعلنوا إدانتهم لما حدث في منطقتهم، وأعلنوا صمودهم مع أهلهم وأجهزة الدولة في مواجهة سلوك المتمردين وما أحدثوه من توتر وقلق بالمنطقة.
كما افاد شهود عيان أن المتمردين استخدموا طلاب كلية الشريعة بجامعة غرب كردفان دروعا بشرية لتحاشي الضربات الجوية .
كما ان هناك قيادات اهلية مفقودة ويرجح انها قد اقتادها المتمردون والقيادات المفقودة هم الرشيد سالم عجب الحبيب ومحمد يس ومنهل برمة.
لماذا الهروب شمالاً؟
وفق معلومات شهود عيان فإن بعضاً من المتمردين قد انسحبوا باتجاه الشمال لمدينة أبو زبد، وواضح أنهم يريدون استخدام المواطنين دروعاً بشرية لطبيعة المنطقة وكثافة السكان والقرى المتقاربة جداً، وأية عمليات عسكرية مباشرة في تلك المناطق ستحدث أضراراً مأساوية على المواطنين وممتلكاتهم، وربما يكسب الحدث بعداً آخر يحقق أملاً منتظراً للمتمردين في خطابهم يستثمرونه في جذب التعاطف الإنساني، سيما أنهم يتحاشون أماكن تمركز القوات ويسلكون طرقاً ملتوية في تنفيذ عملياتهم، وإمعاناً في تفتيت المجتمعات وتعزيز خطابها باحداث الهزات الاجتماعية ودعمها بالسلاح رغبة في توسيع دوائر النزاع القبلي وسط المناطق المتماسكة.
ووفقاً للمعلومات الميدانية المتاحة فإن المتمردين خلفوا أكثر من (08) عربة لاندكروزر ما بين مدمرة وسليمة.. ولاذوا بالفرار، فبعضهم ذهب في اتجاه الجنوب الغربي لمدينة أبوز بد بعد حصار محكم وقتال عنيف من قبل القوات المسلحة في منطقة «أطاية» بعد أن حاولوا في البداية الانسحاب شمالاً في اتجاه قرى قليصات وأم دفيس، لكنهم غيروا وجهتهم عندما علموا أن القوات المسلحة تحاصرهم من تلك الجهة، وأن أهل تلك المناطق كانوا متحفزين لقتالهم ومواجهتهم، وقد نظموا أنفسهم في كتائب للدفاع عن مناطقهم وثرواتهم والتصدي للمتمردين وقُطاع الطرق، وهو مؤشر إيجابي كبير أدركه المتمردون وعلموا أنهم قد دخلوا في أراضٍ غير متعاونة مع نهج وسلوك التمرد في التخريب واستهداف المنشآت الخدمية العامة. وأبرز المؤسسات التي تعرضت للتدمير منزل المعتمد ومبنى المحلية والبنك الزراعي وبعض الممتلكات الخاصة في مدينة أبو زبد.
أن تصحو مدينة (أبو زبد) وهي الأكثر أمناً على صوت الرصاص وفرقعة وتدمير المحطة التحويلية للكهرباء وهي المعلم التنموي الأبرز بالمنطقة، هذا مفاده مزيد من زعزعة الأمن والاستقرار ووقف عجلة الإنتاج في منطقة تعد هي الأبرز في عملية الإنتاج للحبوب الزيتية والثروة الحيوانية والغابية، وما كان معتمدها الهادي عبد الماجد يصدق أن التمرد ينوي بالفعل مهاجمة (أبو زبد) حين غادرها في مساء اليوم الذي سبق الهجوم ليصل الخرطوم، ويعلم صباح اليوم الثاني أن محليته كانت في عمق تفكير التمرد وحركات دارفور الهاربة من عمق الجبال الغربية، لكن بأقل تفكير سياسي كان يمكنه أن يصل إلى هذه الخلاصة. إن أية عمليات عسكرية في الجبال الغربية لجنوب كردفان فإن «روائش» داناتها ستتأثر بها محلية أبو زبد، وهي الأقرب والرابط بين ولايات شمال وغرب وجنوب كردفان، فأغلب الظن كان أن ثمة رغبة للمتمردين في إحداث ضرر في منطقة ما، والأرجح (أبو زبد) هذا الظن تشهد عليه تطورات المنطقة شرقه وعلى مقربة من الدلنج التي كانت قد شهدت محاولات هي في الأصل البحث عن التشوين والتحضير لعمليات الخروج الكبير إلى مناطق أخرى أكثر تحصيناً من هذه المنطقة التي باتت مكشوفة بعد ذهاب الخريف، وما يسمح به القول أن أحكام التدابير المحلية مطلوبة في هذه المرحلة، خاصة أن التدابير المركزية أكثر وضوحاً، لكن الوضع الداخلي لغرب كردفان بحاجة إلى رؤية أكثر انتظاماً واتساقاً بدلاً من الطريقة الماثلة التي يتحرك فيها الجميع لأجل تحقيق هدف واحد، وهذا الأسلوب ربما يحدث فجوات مخلة بعملية الاستقرار. وسبق لولاية جنوب كردفان إبان حكم الوالي حبيب مختوم أن أحكمت عملية تقاسم الأدوار سيما في عمليات إدارة المعارك التي تخص أمن المنطقة الغربية، وكان مختوم والمقدم حينها صلاح الطيب والفريق حالياً نائب مدير جهاز الأمن وأفرع المجاهدين عبد الله محمد علي والشهيدان محمد اسماعيل وعلي إبراهيم، كان هؤلاء وآخرون يقتسمون المواقف في عمليات العام 1996م التي حققت نجاحات كبيرة في ما يخص أمن الولاية الداخلي رغم تبدل الأوقات والأزمة، لكن الظرف الحالي بحاجة إلى تنسيق أمني واسع بين أجهزة الولاية الواحدة، ومن ثم مع الولايات المتجاورة لرسم ملامح الماضي في الوقت الحاضر لإحداث التحول المطلوب.
احتمالات تستدعي الاستنتاجات
تطور الأحداث في غرب كردفان هز غصن الشجرة وفتح أفقاً جديداً ربما يستعير المتمردون فيه لغة فقيرة للمنطق ومتناقضة في ذات الوقت لا يطيقها المجتمع المحلي، لكنها لغة للمساومة، كما أن التمرد قد أهدى الحكومة خطاباً آخر يضاف إلى المنطق وعقلانية الحوار بشأن المنطقتين، وهو ضرورة تأمين دائرة وحدود المناطق المتحاور حولها وحصرها في جنوب كردفان والنيل الأزرق وإبقاء دارفور على منبر (الدوحة)، وبزاوية تحليلية أخرى وفي ما نظن، فإن الذين يقفون خلف غرف تفاوض المتمردين يريدون توسيع دائرة الحديث حول مناطق المتمردين لاستهلاك وقت المفاوض الحكومي، وذلك لأجل تحقيق مكاسب في ملف التفاوض الرئيس حول المنطقتين مقابل إجبارهم على التنازل عن الحديث عن سيطرتهم أو التحدث باسم مناطق أخرى في غرب كردفان. وواضح أن جناح جبريل إبراهيم قد ضغط على المنتسبين لحركته من أبناء هذه المناطق التي لا تنتمي إلى دارفور جغرافياً بإحداث توترات في مناطقهم حتى يكتسبوا شرعية التحدث باسمها، وهذا يتطلب سيف الحسم من القوات المسلحة ضمن عمليات الصيف الحار، وإلا سيخضع الجميع إلى سياسة الأمر الواقع والتعامل مع حقائق جديدة على الأرض.
صحيفة الإنتباهة
ع.ش