وعبر زبال، وهو الصحافي المخضرم، عن انبهاره بقوة الثقافة العربية وهيمنة الشعر والأدب، وتمكن الناس منه في تلك البلاد الصحراوية، وكان سكان موريتانيا حينها في حدود المليون نسمة، فأطلق عليها اسم «بلد المليون شاعر»، فصارت تعرف به.
لم يتراجع اهتمام الموريتانيين بقرض الشعر وروايته، بل ظل الشعر يتسلل إلى كل مناحي الحياة، في الأماسي واللقاءات العلمية، والجلسات العائلية، ولقاءات الأصدقاء، والأعراس، والحفلات، وسهرات الحملات الانتخابية أيضا. لكن جديد الشعر في موريتانيا هذه الأيام هو قرار مجموعة من الشعراء الموريتانيين خوض تجربة فريدة تتمثل في إدخال الشعر إلى عوالم السياسة، فأسست حزبا سياسيا أطلقت عليه اسم حزب «الرؤية الجديدة»، منحته وزارة الداخلية ترخيصا بالعمل في أغسطس الماضي.
الحزب الجديد يترأسه أحمد ولد الوالد، وهو شاعر شاب عرف بأسلوبه التجديدي في الشعر العامي، ويتولى أمانته العامة النبهاني ولد محمد فال، وهو أيضا شاعر شاب يمزج بين الفصيح والعامي. ويتكون أغلب أعضاء مكتبه السياسي من شعراء.
وكان ولد الوالد قد قال في أول تصريح له إنه ورفاقه سيخوضون غمار السياسة إلى جانب بقية القوى والأحزاب، بما في ذلك المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية يوم 23 الحالي، مشيرا إلى أن «حزب الرؤية الجديدة» يعبر عن تيار مستقل ينبض بروح الشباب، ولديه رؤية شاملة للقضايا الوطنية والقومية.
وأشار ولد الوالد، وهو أيضا عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، إلى أن غالبية الملوك والأمراء والزعماء الأبرز عبر التاريخ كانوا شعراء وأدباء. وأثار تأسيس الحزب الكثير من ردود الفعل والنقاشات، خصوصا على شبكات التواصل الاجتماعي، وكتب رئيس الحزب على حسابه في «فيس بوحبك» منتقدا الحالة التي وصل لها الشعراء بالقول إن كثيرين منهم يقدمون المصالح الشخصية على مصالح الوطن. وأضاف «الشعراء يملكون الشجاعة لقول كل ما يعتقدون لكنهم لا يعتقدون كل ما يقولون، ويرفضون رؤية الأشياء بوضوح، وهم أزهد الناس في ما يكتبون، فصانع الأصنام لا يعبدها، لأنه يعرف المادة التي صنعت منها».
وقال الأمين العالم للحزب الجديد، النبهاني ولد محمد فال، إن الفكرة لم تكن أصلا خلق إطار سياسي يقوده الشعراء، بل كانت تتلخص في وجود إطار سياسي شبابي ناضج ومنفتح ولديه تصور حداثي عما جرى ويجري في البلد. وأضاف أنه بعد أن أصبح هذا الإطار كيانا سياسيا أدرك الرأي العام أن قيادة الحزب تضم بعض الأوجه الشعرية الشابة في البلد، فأطلقوا عليهم «حزب الشعراء».
وعبر النبهاني عن اعتقاده أن الشعر لا يناقض السياسة، وأنه على مر التاريخ كان الشعراء والمفكرون والمبرَّزون في العلوم الإنسانية الأقدر على تحمل أعباء الحكم والتميز والنجاح، و«تقديم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض».
حالة مرضية من جهته، أكد الإعلامي والكاتب القصصي جمال ولد محمد عمر أن فكرة تأسيس الشعراء لأحزاب سياسية خاصة بهم تكاد تكون خصوصية لبعض البلدان التي تعد فيها السياسة هما يوميا لكل مواطن كما الشعر تماما «وهي حالة مرضية تعكس فوضوية شاملة»، حسب تعبيره. ويقول ولد محمد عمر إنه إذا كان الشعراء المتحزبون ينظرون إلى المسألة من زاوية حق الشاعر في ممارسة نشاطه السياسي كأي مواطن عادي، فإنه شخصيا يعد تسييس الشعر قتلا أو امتهانا له من أجل «سياسة عالم ثالثية» تفتقد إلى الكثير من المبادئ، وتعتمد الكثير من المصلحية.ويصف ولد محمد عمر علاقة الأدب بالسياسة بأنها قديمة جدا، لكنها ظلت علاقة محكومة دائما بأجواء التوتر الدائم، ولهذا قيل قديما بأن السياسة كانت دوما «محرقة للأدباء»، لكن ذلك لم يمنعهم من التعاطي معها نظرا لحاجة كل منهما للآخر، فقد ظل الشاعر دوما هو صوت الأمير وحامل انتصاراته عبر مختلف الأفاق وجليسه ونديمه القريب، في الوقت نفسه الذي استمد فيه الكثير من الشعراء قيمتهم المعنوية والمادية من حظوة الأمير والملك.
ولكن الكاتب القصصي الموريتاني يشير إلى أن علاقة الأدب بالسياسة اليوم باتت تختلف قليلا، إذ لم يعد للشاعر أو الأديب نفس الدور الذي كان يلعبه قديما، كما بات يمتلك منابر خاصة يمرر من خلالها ما يريد قوله، وانتشر مفهوم عصامية الأدب والأدب من أجل الأدب، في مقابل الأدب من أجل الحياة، ولهذا أصبح بمقدور الشاعر أن ينخرط في الهم السياسي والقومي بعيدا من السلطان.
ويلعب الشعر في موريتانيا أدوارا بارزة في الحملات الانتخابية، وفي صعود نجوم المرشحين، وما زال العديد من الموريتانيين يرددون قصائد وأناشيد كتبت في مواسم انتخابية في عقد التسعينات من القرن الماضي، مما يعكس الحضور البارز للكلمة والنص الشعري في العمل السياسي خاصة في جانبه الإعلامي والدعائي.
صحيفة السوداني
ع.ش