} د. غازي.. الرحيل ما باختياري!!
أعذب ما تغنى به المطرب «مجذوب أونسة» أغنية (يا قماري) التي يقول أحد مقاطعها:
جيت أوادعك يا قماري
ما خلاص شديت رحالي
جيت أقول ليك لما أرحل
أبقي عشرة على دياري
كل يوم أديها طلة..
وقوقي لي أمي وصغاري
تلك الأغاني العذبة قد يرددها الدكتور «غازي صلاح الدين» حينما تكتب لجنة المحاسبة قرار فصله من الحزب ويصادق مجلس الشورى اليوم على القرار، ويتذكر أياماً خوالي في التنظيم.. أيام حلم ويقظة وآمال، ولكنه لن يجد سانحة لوداع من أحبهم وألفهم وألفوه وعاش بينهم كقيادي، صفقت له أيدٍ حتى أحمرت، وهتفت باسمه حناجر حتى يبست.. وكان «غازي» نجماً في فضاء الإسلاميين، وأصبح اليوم كاتباً في الـ(فيسبوك) يخاطب النخب والمثقفين ولكنه بعيد عن عرق ورائحة الجماهير التي حملته وهناً على وهن.. واختار «غازي» بمحض إرادته الترجل من القطار ولم يدع له (الكمساري) فرصة وداع من كانوا في معيته.. ترجل «غازي» في يوم كريهة ومسغبة، وحينما أبصر من الشاطئ سفينة الإنقاذ التي كانت ولا تزال (لا تبالي بالرياح) ومد بصره للأمواج التي تتقاذفها حتى كادت أن تصبح كريشة في وسط رياح عاتية، قرر «غازي» مغادرة السفينة بذريعة النصيحة التي يقدمها الجندي للقائد تحت قعقعة السلاح، ما أثار حنق وغضب ربان السفينة ومساعديه وجمهرة الركاب.. فإذا كان السيد «محمد عثمان الميرغني» الحليف وشريك المصلحة قد أرعبته تظاهرات الثلاثاء، فنظر وقدر وتدبر وكتب لنفسه ولحزبه درباً لـ(المخارجة) وصعد على الطائرة المتوجهة إلى المملكة المتحدة العجوز، وكتب قرار الانسحاب من الحكومة ووضعه في (جيب) «أحمد سعد عمر» لتقديمه في الوقت المناسب إن تداعى هيكل النظام وآل للسقوط.. وحتى السيد ابن السيد «عبد الرحمن الصادق المهدي» بحث عن مركب صغير ينجو به من غرق السفينة المنتظر، فإن إقبال «غازي صلاح الدين» و»حسن رزق» و»فضل الله أحمد عبد الله» على نصيحة القائد تحت وقع السيوف والقنا، عدّت في أوساط الإسلاميين هروباً من المعركة وتولياً يوم الزحف، وغلظت في وجوههم الأحكام، وخففت عن آخرين لم تفزعهم التظاهرات التي خرجت للشارع، ولكنهم (غاضبون) وحانقون من ممارسات يرونها (معيقة) لأداء الدولة والحزب.. وبنهاية اجتماعات شورى الوطني اليوم تنتهي فصول جماعة (الإصلاحيين) التي بات وجودها في أوعية التنظيم الحاكم مثل وجود الذئب والغنم في حظيرة واحدة.. لكن شورى المؤتمر الوطني ستفتح اليوم جرحاً عميقاً في جسدها حينما تقدم لجنة الإصلاح الحزبي تقريرها.. ومن المفارقات أن لجنة المحاسبة التي فصلت في قضية الإصلاحيين يترأسها مولانا «أحمد إبراهيم الطاهر».. ولجنة الإصلاح الحزبي التي ينتظر أن تقدم تقريرها اليوم يترأسها أيضاً مولانا «أحمد إبراهيم الطاهر» رئيس البرلمان.. فهل يقبل مجلس الشورى على الإصلاح الحقيقي؟؟
إصلاح الحزب أم الدولة؟؟
لجنة الإصلاح الحزبي إذا لم تمد بصرها لإصلاح شأن الدولة، سياسات ومناهج وممارسة، فإنها لا تعدو كونها منجاة للنفس، وإصلاح حزب حاكم كالمؤتمر الوطني له علاقة بإصلاح الدولة!! ولدكتور «نافع علي نافع» نائب رئيس حزب الوطني رؤية أكثر وضوحاً من غيره من القيادات للإجابة عن السؤال: هل الحكومة حكومة الحزب أم الحزب حزب الحكومة؟؟ د. «نافع» يعدّ السبب الجوهري الذي أدى لانقسام المؤتمر الوطني في الرابع من رمضان وإزاحة د. «الترابي» من الأمانة العامة وتغيير النظام الأساسي للحزب، هو محاولة «الترابي» السيطرة على الحكومة عن طريق آليات الحزب.. د. «نافع» يرفض أن يحكم الحزب بأماناته، ولكنه يعدّ التجديد والإصلاح ضرورة وحقاً مشروعاً.. ويناهض د. «نافع» أية محاولة للعودة إلى نظام الأمانة العامة، وأن يفرض أمناء التنظيم في الحزب رؤيتهم وهيمنتهم على وزراء الحزب، دون أن يصبح وزير الحزب غير قابل للمساءلة والمحاسبة الصارمة، ولكن في دائرة الصمت وبعيداً عن الأضواء الإعلامية.. فهل الإصلاح الحزبي يرتبط فقط بإصلاح الهياكل واللوائح الداخلية؟ أم له علاقة وثيقة جداً بتغيير الوجوه وتبادل المواقع وتجديد الدماء في شرايين الحزب؟؟
إن قضايا التجديد والتغيير واللوائح هي شأن صفوي، يهمّ قطاعات حزب المؤتمر الوطني والمتطلعين للاستوزار والتوظيف، لكن الشعب السوداني ينتظر من اجتماعات الشورى أن لا تنكفئ على الذات في أبراج عالية وأسوار محكمة الأقفال.. فالأوضاع التي تعيشها بلادنا أوضاع مأزقية.. وقد أعلن الجنرال «عبد الرحيم محمد حسين» يوم (الثلاثاء) الماضي من قبة البرلمان بدء عمليات الصيف للقضاء على التمرد العسكري في كل من دارفور وكردفان من خلال حملة صيف ساخنة.. وذلك هو المطلوب من القيادة العسكرية، أن تبسط الأمن وتحفظ للموطنين حقوقهم التي انتهكها التمرد!! والحرب لها وجهان.. أمني واقتصادي، فالتمرد تمدد خلال العام الماضي ودق أبواب كل ولايات غرب السودان من الأبيض حتى الجنينة، واقترب من ولاية النيل الأبيض، لذا يجب كسر شوكة التمرد وإضعافه حتى يقبل على المفاوضات بقناعة مفادها استحالة إسقاط النظام عسكرياً، فللحرب ثمنها الباهظ جداً على حياة المواطنين واقتصاد البلاد، الذي يشهد تدنياً مريعاً في الصادرات وانخفاضاً في سعر العملة الوطنية، وتصاعداً شديداً في معدلات التضخم، ولم تخف الحكومة على لسان وزير ماليتها عزمها على تطبيق الوجه الثاني لسياسات رفع الدعم عن المحروقات، الشيء الذي سيضاعف من معاناة المواطنين وربما استحال على الموطنين العيش الكريم الذي تنشده الحكومة وأية حكومة لمواطنيها.. ومن إفرازات الحرب تصاعد أعداد النازحين والفارين من مناطق الحرب، وخروج مسارح الحرب من دائرة الإنتاج، وقد أصبحت الآن ولايات دارفور وكردفان عبئاً ثقيلاً على الخزينة المركزية بعد أن كانت خزينة المركز تعتمد بنسبة (60%) على المحصولات الزراعية والثروة الحيوانية من الإقليمين و(40%) على مشروع الجزيرة.. ومجلس شورى المؤتمر الوطني في دورة انعقاده الحالية لابد له من النظر في مثل هذه التحديات الكبيرة.. وإذا كانت قضايا مهمة مثل الحرب وكسر شوكة التمرد وبسط الأمن لا تتم مناقشتها في الشورى، وقضية شائكة مثل التدابير الاقتصادية لا تجد حظها من البحث في الجهاز الحزبي.. فمن يسدي النصيحة للحكومة؟؟
الحرب والمعركة الإعلامية
أصبحت قوى المعارضة والحركات المسلحة التي تقاتل في الميدان تعتمد بنسبة (60%) على الآلة الإعلامية والحرب الإلكترونية والفضائيات والإذاعات المتخصصة والموجهة لمواطني مناطق النزاع، ومنذ إعلان الفريق الركن «عبد الرحيم محمد حسين» من قبة البرلمان بدء عمليات الصيف، أخذت أبواق الإعلام التي تسيطر عليها القوى المناوئة للنظام في نشر دعاية كثيفة لبث الإحباط في الرأي العام والنيل من معنويات الشعب.. والوسائط الإعلامية التي تتخذها أبواق الجبهة الثورية هي إذاعة (دبنقا)، و(سودان راديو سيرف)، والتواصل مع هيئة الإذاعة البريطانية، وعشرات المواقع الإلكترونية مثل (سودانيز أون لاين) ومنتدى (الراكوبة) الذي يمثل الواجهة الرسمية للحزب الشيوعي، وصحيفة (حريات) الإلكترونية والورقية، و(نوبة تايمز)، إضافة إلى الخدمة التفاعلية عبر الـ(يوتيوب) والـ(فيسبوك).. ولهذه المنابر الإعلامية تأثير على النخب والمثقفين في المدن والقرى.. وإذاعة (دبنقا) لها تأثير على المستمعين في كردفان ودارفور لما تبثه من دعاية سوداء.. ومقابل هذه الأبواق بالغة التأثير يجد الإعلام الوطني نفسه محاصراً بالقوانين التي تحظر عليه حتى رفع الروح المعنوية للمقاتلين، وتكبل الصحافة وتمنع من نشر حتى الانتصارات التي تحققها القوات المسلحة وقوات الشرطة وجهاز الأمن الوطني، ولا يجرؤ صحفي على الرد على ما يكتب في تلك الوسائط من أكاذيب إلا بعد صدور تعليقات أو بيانات رسمية من القيادة العسكرية أو السياسية.. وفي رمضان الماضي حينما هاجمت قوات حركة العدل والمساواة طريق (الدلنج الأبيض) وقتلت (560) من المدنيين من مواطني الدلنج حتى أضحت المدينة عبارة عن بيت عزاء كبير، ولمدة (72) ساعة ظل الطريق الأسفلتي الرابط بين الأبيض والدلنج مغلقاً، أخذت إذاعة (دبنقا) المعارضة تبث أخبارها من موقع المعركة، والمواقع الإلكترونية تنشر أحاديث قادة المعارضة المسلحة، بينما الإعلام الوطني (محروم) حتى من التنديد بسلوك الحركة الإجرامي، ولم يصدر أي بيان من الحكومة إلا بعد مضي ثلاثة أيام من وزير الداخلية في البرلمان، وذكر موقع الأحداث خطأ، الشيء الذي أضعف وسيضعف ثقة الموطنين في إعلامهم الوطني، ويجعلهم نهباً للشائعات والأقاويل والبيانات التي تصدر من الطرف الآخر.. فلماذا لا تصبح قضية مثل دور الإعلام في الحملة العسكرية الصيفية وإسناده للقوات المسلحة بالحقائق لا الأكاذيب، قضية يتم بحثها في اجتماعات مجلس الشورى، لأن الحرب في أصلها قرار سياسي تنفذه القوات المسلحة؟؟
وكان للإعلام التعبوي في حقبة التسعينيات، أيام حرب صيف العبور، دوراً في حشد الإرادة الداخلية وحفز الشباب للانخراط في صفوف قوات الدفاع الشعبي حتى تحقق النصر وقهرت القوات المسلحة التمرد.. فأين برنامج في (ساحات الفداء) اليوم، والقوات المسلحة تخوض معركة مصيرية مع التمرد في جبال النوبة لا تقل ضراوة عن معارك صيف العبور، والتصدي لحملة العدوان الثلاثي وعمليات الثعلب الأسود والأمطار الغزيرة؟؟ وكيف، والجيش يقاتل في معركة مصيرية، لمجالس السياسة والصحافة أن تتحدث عن إقالة وزير الدفاع وإزاحته من منصبه؟ هل في مثل هذا التوقيت يمكن تبديل وزارة الدفاع؟ والفريق «عبد الرحيم محمد حسين» شخصية يختلف الناس حولها ويتفقون، ولكن أثناء المعركة لا يمكن إعفاء القائد كما تقول التقاليد العسكرية.. وقد أعد الرجل لحملته في صمت شديد، فلماذا لا ندعه حتى تضع الحرب الحالية أوزارها وتبلغ القوات المتوجهة إلى مناطق العمليات مقاصدها؟؟
لماذا لا يستقيلون؟؟
جاء في الأخبار أن وزراء المؤتمر الوطني سيتقدمون باستقالاتهم لرئيس الحزب قبل التشكيل الوزاري المرتقب، وذلك لإتاحة الفرصة للرئيس لاختيار الوزراء الجدد وفق ما تمليه عليه مسؤولياته في حسن إدارة شؤون البلاد!! فإذا كانت الحكومة المركزية تمثل عصب السلطة في البلاد، فإن الحكومات الولائية أهم من الحكومة المركزية، وأحرى بالولاة المنتخبين والمعينين تقديم استقالاتهم مع الوزراء حتى يتسنى للرئيس اختيار ولاة جدد وفق الكفاءة والقدرة على تنفيذ برنامج مرحلة ما قبل الانتخابات القادمة.. وقد سقطت ذريعة الولاة المنتخبين مبكراً حينما أرغم ولاة على تقديم استقالاتهم حتى يعين الرئيس آخرين مكانهم.. وبعثرت الحكومة المركزية خارطة ولايات كردفان ودارفور ولم تبق من الولاة المنتخبين إلا السلطان «عثمان كبر»، وحتى «أحمد هارون» نزعت منه مشروعية انتخابه في جنوب كردفان وذهبت به إلى شمال كردفان.. فلماذا لا يتقدم الولاة باستقالات جماعية وقد تبدت ثغرات كبيرة وإخفاقات لبعضهم قد يصعب الصبر عليها حتى عام 2015م؟؟ فإذا صبرت الحكومة الاتحادية، فإن جماهير الولايات قد ضاقت ذرعاً بولاة أدمنوا الإخفاق من خلال تجارب السنوات الماضية.[/JUSTIFY]
حديث السبت : يوسف عبد المنان
صحيفة المجهر السياسي
ت.ت