قضيت الأسبوع المنصرم في القاهرة، وكانت آخر مرة زرتها فيها في مارس من عام ١٩٨٢، ولا ينبغي لي ادعاء أي نوع من البطولات، ولكن سبب القطيعة بيني وبين القاهرة هو أنني كنت أكره زوج سوزان ثابت بنفس قدر كراهيتي لفاروق الفيشاوي وبشار الأسد ومعمر القذافي، وبالتالي عاهدت نفسي ألا أزور مصر وسوريا وليبيا طالما مبارك والشبل والجزافي في كراسي الحكم، وكان لا بد من زيارة ميدان التحرير في القاهرة ولكن ما نيل المطالب بالتمني، فقد اكتشفت أن أوضاع مصر لم تتغير بزوال حكم زوج سوزان، لأن الترشح للرئاسة في مصر أسهل من الوصول إلى ميدان التحرير، فجميع من ركبت سياراتهم الخاصة والتاكسي كانوا يرفضون بحزم التوجه نحو ميدان التحرير رغم أنه لم يعد فيه معتصمون ومتظاهرون.. أهدرت الحكومات المصرية المتعاقبة البلايين في حملات تحديد النسل، وفات عليها أن المشكلة ليست في أعداد البشر بل في أعداد السيارات، وفي كون تلك السيارات تدوس على قوانين المرور المتعارف عليها عالميا، وأعتقد أن من يستطيع قيادة سيارة في القاهرة مؤهل تماما لقيادة طائرة جامبو ليست بها أنظمة كمبيوتر توضح المسارات، وبعبارة أخرى فإن القاهريين هم أمهر أهل الأرض في مجال قيادة السيارات، ففي شارع يمتد فيه طابور السيارات لنحو كيلومترين تسير كل سيارة بنظام الزقزاق المعروف بـ ٧ و٨ (بالعربي) بمعنى ان كل سائق يغير حارة السير كل بضعة أمتار يمينا فشمالا فيمينا فشمالا.
ومع هذا تبقى القاهرة مدينة ساحرة، وكانت غرفتي في الفندق تطلّ على النيل، وجلست في شرفتها الساعات الطوال مستمتعا بمشهد النهر الخالد والخضرة تحف جانبيه على امتداد البصر، وسرت طويلا على كورنيش النيل، مستنشقا ثاني أوكسيد الكربون العليل (كيف يوصف الطقس اللطيف بأنه «نسيم عليل» بينما يوصف كل من يعاني مرضا أو آفة بأنه «عليل»؟)، فعلت ذلك لأنني محروم من النيل في الخرطوم، فمن يريد الإطلال على النهر في عاصمتنا، عليه إما أن يدفع الشيء الفلاني للجلوس في مطعم او كافتيريا أو التعرض للملاحقة بحجة أن «المنطقة أمنية»، وبالتالي لا تتاح لسكان العاصمة السودانية رؤية النيل إلا وهم ترانزيت (أثناء عبور الجسور)،.. المصريون ينادون كل سوداني بعبارة «ابن النيل»، وهم لا يدرون أن معظم السودانيين يستقون معلوماتهم عن النيل فقط من دروس الجغرافيا.
ومن يتابع وسائل الإعلام يحسب ان الشعب المصري كله، لا همَّ له هذه الأيام إلا اختيار رئيس جديد للبلاد، في حين ان واقع الأمر هو أن الانشغال بهموم الانتخابات ترف لا يملكه معظم المصريين،.. عالم جارية عايزة تأكل عيش وفول، بعد ان «شبعت كلام»،.. طبعا الغالبية العظمى من المصريين سعيدة برحيل زوج سوزان ونجل سوزان الكبير (سنا وليس مقاما).. ولكنهم الآن في مرحلة طارت السكرة (سكرة الفرح بالديمقراطية الوليدة) وجاءت الفكرة (ثم ماذا بعد؟).. وهكذا صارت دواعي أكل العيش هي الأولوية لدى المواطن العادي.. ومع هذا كدت أصيح في كل مصري يطنطن ويشكو من بؤس الحال: يا مفتري.. سندويتش الفول عندكم بـ٣ جنيه، وهذا المبلغ عندنا لا يكفي لشراء حبة فول واحدة.. آآخ ع الرغيف البلدي في مصر وحسرة على الرغيف البلدي الذي صار أهل السودان يشتهونه.. هو موجود بس مش للناس «البلدي».
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]