بؤر الاحتقان
يتكون مجتمع الدهابة من مجموعات وأفراد قادمين من جهات وبيئات متباينة وثقافات متغايرة وينعكس أثر التباين في ملامح الناس وسلوكهم ومظهرهم ويتجلى حتى في الطريقة التي يتناولون بها طعامهم والمتوقع في مجتمع كهذا أن تنتشر بؤر الاحتقان وترتفع احتمالات الصدام بين مكوناته أو مع أهالي المنطقة كما هو الحال في بعض مواقع التعدين الأهلي وإن كان لابد من مثال فلن نجد أفضل من أحداث جبل عامر الدموية.
لاعتبارات عدة تمثل الشمالية وبالتحديد محليتي دلقو وحلفا نماذج مثالية لرصد هذه الآثار وقياسها أولاً لأنها كانت قبل ظهور التنقيب الأهلي من أكثر بقع السودان أمناً وثانيا: لتوفر المعلومات.
بحثنا عن التأثيرات الأمنية والاجتماعية قادنا إلى محطتين الأولى مستشفى دلقو الريفي لقراءة مؤشرات إصابات العنف الجسدي التي كانت مرتفعة كما توقعنا عطفاً على المعطيات لكننا تفاجأنا بوجود عنف جنسي أيضاً حيث استقبل المستشفى خلال الـ(6) شهور الماضية حالتي اغتصاب لأطفال يعملون في مناطق التعدين ويقول مصدر أمني طلب حجب اسمه إن ما سجله المستشفى ربما يمثل الجزء الظاهر من جبل الجليد لعدة اعتبارات منها أن ضحايا هذا النوع من الجرائم عادة يؤثرون الصمت خوفاً من الوصمة الاجتماعية ويضيف ذات المصدر أن مدن الذهب تتوفر فيها الكثير من العوامل الجاذبة التي تستقطب الخارجين على القانون والمنحلين أخلاقياً، وشخصياً كنت طرفاً مساعداً في القبض على أحد المجرمين لكن كان ذلك في ولاية أخرى. ورداً على سؤال حول ما إذا كانت مدن الذهب ستشكل مستقبلاً خطراً يقول: “لا أعتقد أنها ستشكل خطراً هنا في الشمالية في الوقت الحاضر فالسواد الأعظم من مجتمع المعدنين ملتزم أخلاقياً ودينياً ويبحث عن الرزق الحلال ونحن عندما نتحدث عن المظاهر الاجتماعية والأمنية السالبة نتحدث إما عن حالات شاذة أو أفراد قليلين اخترقوا هذا المجتمع لاعتقادهم بأنه يوفر لهم بيئة مناسبة لممارسة جرائمهم وضعف الوجود الأمني مقارنة بسعة نشاط المنقبين المتمددة إلى أعماق الصحراء يغري هؤلاء للقدوم إلى هنا”.
* مؤشر العنف مرتفع
أما العنف الناتج عن الصدامات فهي كثيرة وقد تكررت جرائم القتل والاعتداءات بدافع السرقة أو نتيجة لصراعات على المواقع في الكثير من مناطق التعدين ومعسكرات السكن في الكثير من الولايات وحسب إحصائيات مستشفى دلقو القريب من معسكر وسوق يحمل اسم المدينة نفسها ويقوم باستخراج عدد (2 إلى 3) أرانيك (8) جنائية في اليوم ويستقبل (15) حالة إصابة في الرأس خلال شهر واحد و(6) حالات طعن بآلات حادة خلال ذات الفترة فضلا عن عدد الوفيات الذي يتراوح بين واحد إلى إثنين في الشهر وهي الوفيات- تنتج حسب الدكتور مجيب الرحمن سيف الدين المدير الطبي للمستشفى عن حوادث المرور وانهيار آبار التنقيب على رؤوس العمال.
المحطة الثانية التي توقفنا عندها لقراءة مؤشرات العنف كان قسم شرطة دلقو وبطبيعة الحال لم نحصل فيه على معلومة لأننا لم نكن نحمل تصديقاً من الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة لكننا اصطدنا مفارقة صادمة تقدم صورة واضحة للتحول الذي طرأ على الوضع الأمني في المنطقة ففي العام 2005م قضى المحرر ليلة بقسم شرطة دلقو وقتها كان القسم أقرب إلى استراحة ينتظر فيه المواطنون المتوجهون شمالاً إلى وادي حلفا وجنوباً إلى الخرطوم المواصلات ولم يكن بحراسة القسم مسجون واحد بل إن أحد عناصر الشرطة أكد أنه لم يستقبل سجيناً واحداً منذ أكثر من ستة شهور الآن الوضع مختلف تماماً لا أدري ما حل بالحراسة على وجه الدقة فقد حالت عدم وجود إذن الناطق الرسمي دون زيارتنا لها لكن دفتر البلاغات الذي كان يعلوه التراب الآن لا يكاد يطوى إلا يُفتح لبلاغ جديد كما أن أعداد الشرطة تزايدت وتم إنشاء قسم جديد وترفيع مدير القسم من مساعد إلى رتبة أعلى.
التحول الذي حدث في قسم الشرطة بالرغم من أنه مبني على ملاحظات ومقارنات وليس على معلومات وإحصائيات إلا أنه يعكس مدى تأثير التعدين الأهلي على مجمل الأوضاع في المنطقة.
بين النعمة والنقمة
وفقاً لمعلومات رسمية فإن الذهب سواء كان نتاج التعدين أهلي أو استثماري إن جاز التعبير يوفر لخزينة الدولة ما يفوق المليارين ونصف المليار دولار في العام وأسهم بشكل كبير في تعويض فاقد عائدات النفط بعد انفصال الجنوب حسب تصريحات كثيرة أطلقها مسئولون ووفر فرص عمل لمئات الآلاف من السودانين والأجانب وخلق أيضاً حراكاً اقتصادياً كبيراً وضخ الحياة في الكثير من المناطق شبه الميتة لكن مع هذا الدور المهم الذي يلعبه على مستوى المجتمع وإسهامه الكبير في الاقتصاد القومي إلا أن الحكومة تحللت من معظم واجباتها ومنكبة على التحصيل أو كما قال سليم محمد وهو من منقبي الذهب (المحليات زيها وزي أي دهابي بتكابس في حقها بس) وتركت الحبل على قارب النشاط ليمضي في إبحار أعمى نحو المجهول.
والنتيجة كما وصف المصدر الأمني (سالف الذكر) هو أن هناك كتل بشرية ضخمة تتحرك في مساحات واسعة تصل إلى الحدود الدولية وبعض المناطق الملتهبة دون أن تكون هناك رقابة فاعلة وهذا يغري قطاع الطريق ومحترفي النهب المسلح إلى اختراق النشاط وممارسة عملها في النهب وتجارة السلاح وتهريب البشر وفي ذات السياق كشفت الأجهزة الأمنية أكثر من مرة عن حدوث خروقات أمنية وجريمة منظمة ووافدة بمناطق التنقيب الأهلي عن الذهب بمحليات بربر وأبوحمد بنهر النيل.
وأعلن اللواء شرطة حسين نافع مدير شرطة ولاية نهر النيل في وقت سابق عن إفلاح الأجهزة المختصة من احتواء خروقات أمنية وتراجع عمليات النهب المسلح وقطع الطريق عن المعدنين بمناطق التنقيب الأهلي بنهر النيل، مشيراً لإخضاع مناطق التنقيب لعمليات تمشيط واسعة النطاق بدوريات شرطية متحركة ومزودة بأحدث التقنيات لتعقب وملاحقة الخارجين عن القانون مما ترتب عليه انحسار الظاهرة وبسط هيبة الدولة وتأمين المعدنين، معتبراً عمليات النهب المسلح التي كانت قد بلغت معدلات البلاغات فيها (8) بلاغات يومياً وحديث اللواء نافع يكشف مدى التعقيدات الأمنية التي تكتنف نشاط التعدين الأهلي.
المشاكل التي تعج بها مناطق التعدين الأهلي كثيرة ومتباينة تبدأ بالظواهر الإجتماعية والأمنية والبيئية والاقتصادية التي تحتاج إلى تكوين فرق علمية متخصصة لدراستها على الأرض ووضع المعالجات العلمية المناسبة للكيفية التي يمكن بها تحقيق الفائدة القصوى من هذه الثروة ومحاصرة الظواهر الاجتماعية السالبة وكيفية تقليل الآثار البيئية المدمرة التي تترتب على التعدين بالشكل المعمول به الآن.
وفي المحور الأمني تمثل مواقع التعدين وفقاً لمشاهداتنا ورأي منسوبي السلطات الأمنية بيئة جاذبة للخارجين على القانون والنشاط نفسه يمكن أن يكون غطاءً للكثير من الأنشطة المحرمة كتجارة المخدرات والسلاح والآثار وغيرها من الممارسات التي وإن كانت الآن محدودة إلا أنها يمكن أن تنمو وتزدهر مستقبلاً مع اتساع رقعة المكان وضعف الوجود الأمني والرقابة.
أحداث ابو حمد تبدو محدودة وتحت السيطرة حسبما قالت شرطة نهر النيل لكن مجتمعات التنقيب العشوائي بمعطياتها تحفل بالكثير من حقول الألغام القابلة للانفجار كما أنه أيضاً بيئة جاذبة للكثير من الأنشطة المشبوهة ومدخل للوافدين الغرباء ومخاطرهم والحكومة مطالبة اليوم بضبط هذا النشاط حتى لا يتحول ثروة الذهب مالم نستغله بصورة علمية مدروسة فتتحول إلى نقمة.
صحيفة السوداني
[/JUSTIFY]